المسيح والدولة

لقد رفض المسيح أن يكون الماسيا السياسي, وهذا لا يعني أنه لم يأخذ موقف تجاه السلطة السياسية في عصره.
علي العكس ـ الأناجيل الإزائية ـ رغم أنها كٌتبت في وقت كان هناك بيئة سياسية عدوانية ضد المسيحية, الأمر الذي يقتضي أن لا يتكلموا عن سياسات الدولة ـ قد سجلوا كلمات ليست بقليلة قد قالها المسيح تُغطي موقفه تجاه الدولة.
كلمات المسيح عن يوحنا المعمدان: "لكن ماذا خرجتم لتنظروا, إنسانًا لابسًا ثيابًا ناعمة. هوذا الذين يلبسون الثياب الناعمة هم في بيوت الملوك" (مت8:11).
هذا الكلام عن "الثياب الناعمة" و "بيوت الملوك" يخص رؤساء الرومان والمشتغلين معهم والهيرودسيين الذين يستغلون ويقهرون الشعب اليهودي. 
وهكذا استنكر وأدان المسيح السلطة السياسية التي كانت في عصره.
أيضًا عندما أخبره بعض الفريسيين أن هيرودس طالب بأن يقتله, أجاب: "أمضوا وقولوا لهذا الثعلب ها أنا أخرج شياطين وأشفي اليوم وغدًا وفي اليوم الثالث أكمل" (لو32:13). الكلام هنا عن هيرودس انتيباس إبن هيرودس العظيم، رئيس ربع الجليل (4ق. م ـ 39ق. م) الذي قطع رأس يوحنا المعمدان. 
عندما علم هيرودس عن المسيح ونشاطه وتعاليمه قال " يوحنا أنا قطعت رأسه. فمن هو هذا الذي أسمع عنه مثل هذا. وكان يطلب أن يراه" (لو9:9) لقد توقع أن القضية هي أن يوحنا المعمدان قد قام من الأموات : " هذا هو يوحنا الذي قطعت أنا رأسه. أنه قام من الأموات" (مر16:6).
لقد أرسل كلامه إلي هيرودس هذا "قولوا لهذا الثعلب"
لقد وصفه علي أنه "ثعلب" وهذا الوصف يعتبر من النوع النقدي الثقيل ويعبر عن مدي فكر المسيح تجاه السلطة السياسية.
أيضًا استنكر المسيح تصرف رؤساء اليهود والرومان عند القبض عليه, قائلا لرؤساء الكهنة والجنود الرومان في جثيماني: " إذ كنت معكم كل يوم في الهيكل لم تمدوا علي الأيادي ولكن هذه ساعتكم وسلطة الظلمة " (لو53:22).
هذا يعني أن المسيح وصف الرئاسة اليهودية وقيادات الجيش الروماني كسلطة مظلمة ،هذا الوصف يكشف التضاد الشديد تجاه الرياسات.
المسيح يرفض روح التسلط والسيطرة من قبل الدولة ويفضل أن تكون أعمالهم منقادة بروح الخدمة أي خدمة الإنسان :
 " أنتم تعلمون أن الذين يُحسبون رؤساء الأمم يسودونهم وأن عظماءهم يتسلطون عليهم. فلا يكون هذا فيكم بل من أراد أن يصير فيكم عظيمًا يكون لكم خادمًا. ومن أراد أن يصير فيكم أولاً يكون للجميع عبدًا لأن إبن الإنسان أيضًا لميأت ليُخدم بل ليخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين " (مر42:10ـ45).
وهكذا المسيح رفض التسلط والقهر من قبل الدولة تجاه المواطن مستندًا علي أن الدولة يجب أن تكون لخير المواطنين أي بدلا من أن تنقاد الدولة بروح التسلط, تنقاد بروح الخدمة هذا لا يعني أن المسيح رفض الدولة وكان يريد مجتمع بلا دولة, والدليل علي ذلك عندما أرسل الفريسون والهيرودسيون أناس لكي يسألوا المسيح سؤال المصيدة: " قالوا له يا معلم نعلم أنك صادق ولا تبالي بأحد لأنك لا تنظر إلي وجوه الناس بل بالحق تعلم طريق الله أيجوز أن يعطي جزية لقيصر أم لا تعطي" (مر13:12ـ14) 
وأضح أنهم قد نصبوا الشباك له ـ فلو كانت إجابة المسيح سلبية سيتهمونه عند رؤساء الرومان وهذا الشيء قد فعلوه فيما بعد... (لو2:23) أنه أوصي الشعب أن لا يعطون جزية لقيصر ولو العكس أعطي إجابة إيجابية, سوف يتهمونه علي أنه مساند ومتعاون مع الرومان .
لقد أدهشهم المسيح برده قائلاً لهم: " لماذا تجربونني. إيتوني بدينار لأنظره فأتوا به فقال لهم لمن هذه الصورة والكتابة. فقالوا لقيصر. فأجاب يسوع وقال لهم أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله. فتعجبوا منه " (مر15:12ـ17).
بهذه الإجابة لم يتجنب المسيح فقط سؤال المصيدة ولكن لها دلالة إذ عبّرت بوضوح عن موقفه تجاه الدولة.
وبكلامه هذا "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله" لم يضع المسيح قيصر والله في كفه واحدة. هذه العبارة تعني: أعط لكل واحد ما ينتمي إليه فإلى قيصر تنتمي العملة (الدينار) المرسوم عليها صورته. أما أنتم فإلى الله تنتمون إذ أنتم صورة الله.
المسيح يعرف جيدًا كيف أن الدولة لها حقوق معينة علي المواطن مثل حق دفع الضرائب. لكن توجد حدود لا يمكن للدولة أن تتعداها. فهي ليست لها حق علي حياة الإنسان, ليس لها الحق أن تنتهك الحقوق المقدسة, لأن الإنسان نفسه وجسده وروحه ينتمون إلي الله.
وهكذا كلمات المسيح: "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله" تحتوي علي موقف إيجابي وموقف سلبي.
الإيجابي: نقدم لقيصر (الدولة) كل ما ينتمي إليه.
السلبي: أن يرفض أن يقدم للدولة ما ينتمي لله, كل شيء مقدس.
لا تقبلوا أن تصيروا عبيد للدولة, "ويسوع حينما قال أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله. لم يقصد بهذا أن قيصر له اختصاص منفصل أو مستقل عن الله, وإنما قصد أن لقيصر اختصاصاته في ضوء محبة الله .
نفس الموقف قد أخذه المسيح مع (الرئاسة الدينية) عندما تحدث مع تلاميذه ناقدًا الكتبة والفريسيين: "وأما أنتم فلا تدعوا سيدي لأن معلمكم واحد المسيح وأنتم جميعًا أخوة. ولا تدعوا لكم أبا علي الأرض لأن أباكم واحد المسيح. وأكبركم يكون خادمًا لكم. فمن يرفع نفسه يتضع ومن يضع نفسه يرتفع" (مت8:23ـ12).
كانت هناك عادة أن يطلب الكتبة والفريسيين أن يٌدعى من الشعب "ραββί" يا معلم وأب "αββα πατῆρ" وهذا يعرفه المسيح جيدًا (أنظر مثلاً متي 6:23ـ7) ولذلك يوصي تلاميذه وشعبه أن لا يدعوا أحد لا معلم ولا أب.
المسيح هنا لا يصادر أن يصير أحد معلم أو أب لكن يرفض أن يفرض أحد نفسه علي الناس أن يكون معلم لهم ويجبرهم علي أن يتبعوه كمعلم حقيقي. 
المسيح علي العكس يطالب الإنسان أن يفتش عن الحقيقة " وتعرفون الحق والحق يحرركم " (يو32:8).
أنه يرفض علي أي حال, أن يُنصب أحد نفسه معلمًا مدعيًا أنه يملك الحقيقة خصوصًا الحقيقة التي تحمل معني أو مفهوم الوجود.
هذه الحقيقة الأخيرة تتطابق مع الله نفسه: "أنا هو الطريق والحق والحياة" (يو6:14).
أيضًا يرفض المسيح أن يقحم أحد نفسه كمسيا أو مخلص للبشر: "ولا تدع لك أبا علي الأرض" هذا الكلام يمثل إدانة أساسية لكل ماسيانية وكل محاولة لأن أن يضع أحد نفسه ممثل علي كل البشر.
المسيح من كل ما سبق، لم يرفض الدولة ولكن في نفس الوقت أزال اسطوريتها وأي محاولة لتأليها وذلك بأخذه موقف نقدي تجاهها. لقد اعترف بها كمؤسسة هامة للمجتمع البشري، ومن جهة أخري وضع حدود لحقوقها حتى لا تكون أداة قهر وانتهاك لحقوق الإنسان لكن عامل ضمان لاحترام الإنسان.
لقد كان المسيح ضد أشكال القهر والظلم وقد أكد ذلك بنفسه للكتبة والفرسيين: " أنا عالم أنكم ذرية إبراهيم لكنكم تطلبون أن تقتلوني لأن كلامي لا موضع له فيكم" (يو37:8).
يظن البعض أن هناك تضاد بين رأي المسيح عن الدولة كرؤساء وسلاطين ورأي بولس الرسول في رومية ص13، إذ أوصي بولس الرسول أن نخضع للرؤساء والسلاطين فهم من الله، لكن هذه الطاعة مرهونة بأن تكون الدولة "خادم الله للصلاح" (رو 4:13)
وهذا يعني أن الدولة إن لم تخدم الصالح والبار وصارت أداة للشر والظلم علي المسيحي ـ كواجب مقدس ـ أن يرفض أن يطيع لها وهذا ما صاغه بطرس الرسول أمام المجمع اليهودي: " ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس" (أع39:5).
إذن لا يوجد تعارض بين موقف المسيح وموقف بولس الرسول تجاه الدولة.


د.جورج عوض إبراهيم
دكتوراة فى العلوم اللاهوتية 
باحث بالمركز الارثوذوكسى للدراسات الابائية بالقاهرة