أريد رحمة



 كلّما عرف المرء نفسه عرف أنّ الناس ضحايا. لا يعود يدين أحداً. ليس إنسان، في العمق، شرّيراً. الشرّ، بالدرجة الأولى، جهل، وبالدرجة الثانية ردّ فعل.


 من ذلك أنّ شعور الإنسان بعدم الأمان هو الذي يدفع الإنسان إلى العنف.
 وإقبالُه على الفجور مسعى ملتوٍ لبلوغ المحبّة. وميله إلى الأذيّة محاولة يائسة لبلوغ السلام. مَن خبر السلام، في أعماقه، لا يستحلي خلافه، وكذا مَن خبر الخير والحبّ.
 الشرّ لا يُشبع حاجة أصيلة في النفس بل يأتي من حرمان. الإنسان، في قرارة نفسه، في تركيبه الداخلي، لا يأنس عفواً للعنف ولا للشرّ ولا للفجور. والحرمان من أين يأتي؟
 من سوء تربية الأهل، من انحراف في الشخصية، من إساءات البيئة. العنف والشرّ ردّ فعل. ينشأان من خوف، من قلق. حيث لا تكون المحبّة مزروعة،
 حيث تكون المياه الكيانية آسنة غير نقيّة تتولّد الموبقات. لذا الإنسان ضحيّة. كلّنا يساهم، عن وعي وعن غير وعي، في أذيّة الناس. ليس حلّ مشكلات الإنسان لا في مواجهة العنف ولا الشرّ ولا الفجور. طبعاً هذه، بمعنى، لا بدّ من مواجهتها للتخفيف من تأثيراتها السالبة. ولكن هذه ردّة فعل وقائية.
العلاج ليس في قمع الأشرار والفجّار ولا في حجر العنفاء، وكأنّ ثمّة قوماً وُلدوا أشراراً، والشرّ راسخ فيهم. العلاج في أن تحبّ. الحبّ، والحبّ وحده، يبعث السلام وينشر الخير فلا يعود هناك مجال لا للعنف ولا للشرّ ولا للفجور أن يترعرع في النفس.
 وما يقال في الفرد يقال في الجماعة.
كل البشريّة، كإنسان واحد – لأنّها شريكة في ما لطبيعة البشر – بحاجة للحبّ حتى تتنقّى من الخَبَث الذي فيها. الخباثة من الخَبَث، من الزغل، من النجاسة المعشّشة في النفوس. هذه، أي المحبّة، من أين تأتي بها؟
هذا هو السؤال. الموضوع ليس موضوع سلاح ولا قوى أمن ولا سجون ولا مصحّات عقلية بالدرجة الأولى،
الموضوع موضوع مَن يتعاطى الحبّ في تعاطيه مع الناس، لا سيما مع الذين يعانون ظواهر مرضية متطرّفة كالشرّ والفجور والعنف. أجل، هذه ظواهر مرضيّة.
المريض لا يُساوَى بالمرض. عليك أن تقيم فصلاً بين المريض والمرض وإلاّ ظننتَ أن التخلّص من المرض هو ناتج التخلّص من المريض.
 إذ ذاك تكره وتجتنب المرض والمريض معاً. وما ذلك بإنساني. أنت، إذ ذاك، قاتل. الفصل بين المرض والمريض ضرورة. فقط متى فعلت ذلك أمكنك أن تحبّ المريض، وتالياً أن تعالجه. معالجة من دون محبّة لا تطال جذور المرض.
 إن لم تفعل ذلك، إنْ لم تُحب، ربما اهتممت بالمريض ولكنْ تهتمّ به كرقم، كحالة، كملفّ. لذا لا يأتي العلاج بالنتيجة المرجوّة. التجربة الدائمة هي أن نُشيّء المريض.
 المريض قلب أولاً. لذلك تحبه وإلاّ لا يكون العلاج ناجعاً.
 كل هذا الكلام عن الأمراض النفسية والسعي إلى معالجتها يبقى منقوصاً طالما لم يكن تعامُلُك مع المريض كإنسان تحببه كنفسك. 
السياق أولاً قبل العلاج وإلاّ كان العلاج في غير سياقه مهما كان مؤسَّساً على قواعد العلم والمعرفة. الحبّ هو سياق العلاج وفيه تتمّ كل معالجة موافقة. فقط، إذ ذاك، يمكنك أن تكون فعّالاً. لا بل الحبّ نفسه متى غمر الكيان، متى جرى ضخّه من القلب إلى الكيان، هو يُحدث البُرء ويشفي جراح النفس من ذاته.
 كان متطوّع يعمل في مؤسّسة للأحداث المشاغبين. وكان أحد الأولاد معروفاً بسلوكه الشاذ وسرقة السيّارات والتعدّي على الآخرين. وجود المتطوّع في المؤسّسة كان على أساس إنساني أكثر مما كان على أساس مهني. أخذ، مرّة، الحدثَ المشاغبَ معه إلى القرية. وهناك قال له: خذ مفتاح السيارة، ودونك بعض المال. اذهب إلى أحد مطاعم الوجبات السريعة واشتر ما ترغب به نفسك. فإنّ عندي عملاً أقضيه في القرية على مدى ساعة ونصف. اذهب وعد إليّ في ذلك الحين، ثمّ نعود معاً إلى المؤسّسة. ارتبك الولد. قال للمتطوّع باستغراب ولعثمة:
 "ولكنك تعرف أنّي أسرق السيّارات فكيف تكلّفني بهذا العمل؟!" "لأنّ عندي ثقة أنّك لن تفعل ذلك بعد اليوم!" وبالفعل أخذ الحدث السيارة وغاب ساعة ونصف الساعة ثمّ عاد إلى حيث طلب منه المتطوّع. من ذلك اليوم شيء في نفس الشاب تغيّر.
محبّة المتطوّع، ثقته به، تقديره له جعله إنساناً جديداً. طبعاً في المحبّة مجازفة، ولكنْ أما تستأهل صحّة النفوس المجازفة؟! قل، بالأحرى، إن المجازفة هنا هي إعطاء الشاب فرصة أن يستجيب من تلقاء نفسه، أن يتغيّر من الداخل. نحن لا نغيّر الناس. الناس يتغيّرون إذا ما رغبوا في ذلك. نحن فقط نهيء لهم الفرصة لأن يتغيّروا، لأن تتحرّك قلوبهم، نحثّهم.
 حين يتوقّع منك أحدٌ الانتقام سامحْه ترَ ما لم يكن في الحسبان
حين يتوقّع منك الإعراض اهتمّ به تُحدثِ انقلاباً في نفسه. أنت لا تحتاج إلى تقنيات في هذا الشأن، فقط إلى قلب محبّ.
 أن تَخرج من نفسك. أن تجعل نفسك في موقع مَن يلتقيك. أن تركّز اهتمامك في سواك بدل أن يكون كل همّك نفسَك. السرّ هو في أن تبادر، في أن تتأنّى، في أن ترفق. السرّ في أن تمتنع عن الظنّ بالسوء، في أن تخرج من طلب ما لنفسك. الجواب، بإزاء العنف والفجور والشرّ، هو في أن ترأف.
لا تَدِنْ. لا تطالبْ أحداً بشيء. لا يكنْ همّك في أن تعظ كثيراً. قلّة الكلام مع موقف محبٍّ خير من كثرة الكلام بروح ديّانة. هذا يأخذ وقتاً ونتائجه غير مضمونة؟ ماذا إذاً؟ لِمَ العجلة؟ ماذا تنفع العجلة؟ لماذا علينا أن نؤخذ أبداً بالنتائج السريعة؟ أنت ازرع المحبّة! هذا يكفيك! فأنت لا تعرف ماذا يحدث بعد ذلك.
 القلب سرّ وحده الله عارف به. أحياناً موقف محبّة واحد، كلمة محبّة واحدة تغيّر الإنسان وسريعاً. اترك الأمور تأخذ مجراها. دع روح الربّ يعمل. بزرعك المحبّة في نفوس الناس تطلق مسار الروح في النفس. وللروح منطقه الخاص وطرقه الخاصة. أنت لا تعرف تماماً كيف يعمل روح الله لأنّك لا تعرف سرّ القلب.
 الروح يسفّه كل علم ظواهري. بالعكس، كلّما استغرق المرء في العلم والتقنيات كلّما كان ذلك طلباً لبدائل عن روح الربّ.
 روح الربّ لا يحتاج من قِبَلك إلى معرفة أخرى غير معرفة الله. ومعرفة يسوع تأتيك من محبّتك ليسوع. هذه انثرها في علاقاتك بالناس. دَعِ البذار الإلهي يفعل بقوّة ذاته ترَ عجائب. الله حيّ! المأساة أنّنا نتصرف كأنّه غير موجود. هذا هو الحجر الذي رذله البنّاؤون لكنّه صار رأس الزاوية.


 آلام البشريّة من انحرافها عن محبّة الله. أَعِدْها إلى محبّة الله، بالمثال الصالح، بالقدوة أولاً تستقِمْ كل أمورها. بعض الناس يحتاج إلى وقت أطول وآخرون إلى وقت أقل، بعض الناس يستجيب، آخرون، وهم قلّة، لا يستجيبون.
 يكفيك أن تجعل نفسك أداة بين يدي الله. بعد ذلك مَن يخلص ومَن لا يخلص أنت لا تعرف. هذا ليس شأنك. يكفيك أن تساهم في خلاص الجميع. كن كالنحلة واجمع الرحيق. أنت لست مالك الأرض. للربّ الأرض بكمالها، المسكونة وكل الساكنين فيها. أنت عامل في الأرض فقط.
 اعلم أنّ الله بالقليل قادر أن يعمل الكثير. وهو قادر على أن يعمل بك ومن دونك. ولكنّه يشاء أن يخلص الإنسان بالإنسان حتى تكون لكل واحد فرصة أن يتشبّه بإلهه. الخلاص، في نهاية المطاف، أن تماثل إلهك. إذ ذاك ما له يصير لك. يعطيك نفسه. يعطيك الملكوت. لا تخف أيّها القطيع الصغير فإنّ أباك سُرّ أن يعطيك الملكوت.

هناك عمل كلّنا مدعو إلى القيام به: ترميم أنفسنا والبشريّة بنعمة الله. لا يكن تصرّفك جملة ردود أفعال. لا نسلكن كجاهلين ونحن عارفون. عالمنا بحاجة إلى الكثير. يعاني من الكثير. ولكنْ شيء واحد كلّنا قادر على أن يعطيه، كلّنا بدون استثناء، به تتيسّر كل حاجات البشريّة ومن دونه تبقى البشريّة في بؤس. الحاجة إلى واحد. وبهذا الواحد تنحلّّ كل مشكلة: الرحمة! أن ترحم لا بمعنى أن تشفق فقط بل أن تحبّ من الحشا. أن تتّخذ الآخرين في حشاك كما تتّخذ الأمّ أولادها. محبّة الله لنا هي من هذا النوع. لذا لا نكفّ عن سؤاله: يا رب ارحم!
 فيما يستشري الفساد من حولنا، فيما يشتدّ العنف ويتفجّر الفجور ويتفاقم الشرّ تبقى علامة الصليب علامة الخلاص. الصليب رمز للمحبّة، رمز للرحمة. ثمّة حاجة إلى مَن يبذل نفسه، إلى مَن يفتدي سواه، إلى مَن يمدّ محبّة المسيح بين الناس. لا خلاص إلاّ بالصليب. لا خلاص من الموت، من الفساد، من الوجع، من العنف، من الفجور إلاّ بالحبّ. أحبَّ واعمل ما تشاء. أحبَّ، في كل شيء، تستقِم كل أمورك والناس! أحبَّ تساهمْ في تقويم العالم!


الأرشمندريت توما بيطار
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي – دوما
8 تموز 2007
عن holytrinityfamily.org