الرّقص وتلميذ المسيح


أمن الجائز لتلميذ المسيح أن يشترك في الرّقص، أم بالعكس يجب عليه أن يمتنع عنه 
ويزهد فيه؟ 

هذا هو السّؤال الذي وُضع مراراً كثيرة على منضدة التّشريح منذ إعلان الإنجيل حتى
 اليوم.
 وقد طُلب إليّ أن أبدي رأيي في الأمر (ومن المسلَّم به أنّ رأيي فيه قيمته قيمة رأي فردي لا أكثر ولا أقلّ). ولذلك فإنّي أبادر إلى القول في الحال أنّه يبدو لي استحالة البتّ في الأمر المطروح على بساط البحث بأن نقول فيه "نعم" أم "لا".
 وعند استحالة الرّدّ ردّاً أساسيّاً قاطعاً، وهو ما يريده البعض على ما أظنّ، فإنّه لا يستحيل علينا أن نعمل ما بوسعنا من أجل إيضاح الوسائل التي يقدر كلّ واحد منّا أن يتلمسّها عند بحث الأمر من أجل الوصول إلى الهدف المنشود. 


لنبحث الأمر أوّلاً من نقطة عقليّة. "فالنّاموس الطّبيعي" أو "الأدب الطّبيعي" أعنده يا ترى ما يقوله في هذا الشّأن؟ نعم، ما في ذلك ريب. إنّه يقول لنا أنّ الرّقص شيء لا معاب فيه في حدّ ذاته. وأنّه نشاط طبيعي يندفع به الإنسان عن سليقة فيه. فالولد الذي يقفز ويثب ويطفر إنّما يعمل ما تمليه عليه فطرته وإنّه لا غبار عليه في ذلك إذا هو فعل. والرقص، إن جاز التّعبير، إنّما هو نوع من أنواع التّخاطب. إنّه فنّ غير غريب عن فنّ الموسيقى الذي يشترك معه في قرابة الوزن والقياس. وهو قريب أيضاً من فنّ النّحت والتّصوير. وإنّ قوّة الرّقص تفوق قوّة هذه الفنون وتعلوها بمقدار ما يعلو الحي ما لا حياة فيه. والرّقص أيضاً وسيلة للإفصاح عن الجمال. وله لهذا السّبب نفسه قيمته الثّقافيّة. ولذلك أوصى به أفلاطون في كتابه "الجمهوريّة". إلا أنّه وإن يكن الرّقص لا بأس به في حدّ ذاته فإنّه من الممكن أن ينقلب في الوقت نفسه فيصير شيئاً قبيحاً ممقوتاً 
لأنّه بدلاً من أن يكون فنّاً يبحث عن الجمال (وكلّ جمال إنّما هو انعكاس جمال الله) قد يصبح عملاً إغرائيّاً طبيعيّاً شنيعاً. إنّه يمكن أن يصبح شهوانيّاً ممهِّداً الطّريق أمام إبليس المجرِّب الرّجيم. لا بل إنّه قد ينحطّ فينحدر إلى أسفل الدّركات، إلى النّجاسة. لذلك فإنّه من وجهة نظر الأدب الطّبيعي العالمي وحده يكون الرّقص عندئذ عملاً يستوجب الرّفض والذ 
والرّقص أنواع. فرفض أو قبول الرّقص وفقاً للظروف إنّما هو قضيّة ذوق أدبي بديهي، قضيّة العقل الرّشيد. إنّ مثل هذا الجواب قد لا يرضي بعض الضّمائر المسيحيّة لأنّه، في نظرهم، جواب غير كامل ومتقلقل ومحوَّط بالإبهام 
وهم يفضّلون أن يأخذوا جواباً صريحاً واضحاً مستنداً إلى التّقاليد المسيحيّة كلّها. فلنبحث إذن هذه التّقاليد. ولنعلم قبل كلّ شيء آخر ما إذا كانت كلمة الله المسطرة في الكتب المقدّسة تستحسن الرّقص أم تذمّه. لقد ورد ذكر الرّقص مراراً في العهد القديم. إنّنا نرى اليوم بعض الفرق الدّينيّة الحديثة (كالحسديّين بين اليهود والدّراويش المولويّة بين المسلمين وبعض الشّيع الرّوسيّة المتصوّفة) يرقصون رقصاً دينيّاً رزيناً خاشعاً. كذلك كان العبرانيّون الأقدمون يرقصون مثل هذا الرّقص الدّيني الخاشع. فقد كانت مريم أخت موسى وهرون وغيرها من النّساء العبرانيّات يرقصن إبداء لعواطف الشّكر لله بعد الخروج من مصر (خروج 20:15) ورقصت ابنة يفتاح عند ملاقاة أبيها عقب انتصاره (قضاة 34:11) ورقصت النّساء ابتهاجاً بفوز داود على جليات (1صموئيل 6:18) وداود نفسه رقص أمام تابوت العهد وزوجته ميكال من أجل أنّها هزأت بهذا العمل الخاشع عاقبها الله بالعقم (2صموئيل 14:6 و 16 و20 و23). 
وكان الرّقص قسماً أساسيّاً من أقسام فروض الطّقس الدّيني اليهودي (مز 3:149) وتذكر التّوراة أيضاً دون كلمة تنديد رقصات تسلية وترويح عن النّفس (قضاة 21:21) وورد ذكر الرّقص مع الذّم والتّنديد ثلاث مرّات في العهد القديم. أوّلاً رقص العبرانيّين الوثني أمام العجل الذّهبي (خروج 19:32) ثم النّبوءة المختصّة برقص الجنّ على أطلال بابل (إشعيا 21:13) ثم أخيراً التّحذير من المرأة الرّاقصة (الجامعة 4:9). ويجب أن نأخذ بعين الاعتبار عند تلاوة هذا الشّاهد الأخير أنّه يخنصّ بالأدب شبه القانوني (وهي كتب ملحقة بالتّوراة إلا أنّها لا تؤلِّف قسماً منها) وإنّ الرّاقصة المقصودة بها يظهر أنّها كانت من الزّواني. 
وكذلك نرى بالإجمال أنّ العهد القديم يقرّع ويذمّ ويندّد ببعض المخازي التي يمكن أن يتلطّخ بها الرّقص لكنّه لا يذمّ الرّقص بحدّ ذاته بل يرفعه إلى مرتبة الطّقوس الدّينيّة. 
أمّا العهد الجديد فإنّه يذكر الرّقص ثلاث مرّات. فإنّه عن رقصة نالت هيروديّا من الملك هيرودس مأربها من قطع رأس يوحنّا المعمدان (مرقص 22:6) ونرى أيضاً أنّ سيّدنا يسوع المسيح في مثَلَه عن الابن الشّاطر يتكلّم عن الرّقص والغناء كأنّه كان يتكلّم عن مظاهر اعتياديّة (لو 25:15) ولكي يصوّر في نفس الوقت الفرق بين يوحنّا الذي لم يأكل ويشرب وبين ابن الإنسان الذي جاء يأكل ويشرب (ويشير إلى رفض اليهود للإثنين على السّواء) يذكّرنا يسوع بتلك الأغينة التي كان يتغنّى بها أولاد اليهود في الأسواق إذ كانوا يقولون: زمّرنا لكم فلم ترقصوا. نحنا لكم فلم تلطموا (متى 17:11). ولهذه النّصوص الثّلاثة علاقة خطيرة بالقضيّة التي نعالجها. فإنّ النّصّ الأوّل يرينا الرّقص الشّهواني الذي يمكن أن يقود الإنسان إلى الإجرام. والثّاني يدلّنا على الرّقص الذي لا يتعدّى حدود اللهو الطّبيعي المشروع. والثّالث يرينا حالتين كلتاهما لا بأس بهما، حالة يوحنّا المعمدان الذي كان يمتنع بتقشّف شديد عن الاشتراك في الحياة العامّة، وحالة يسوع الذي كان يشترك فيها. إنّهما طريقان لهما قيمتهما على السّواء في سبيل نشر الإنجيل. ولعلّنا نعثر فيهما على دلالة لها علاقتها بالموضوع الذي نبحثه 
ذلك إنّه يمكن أن نكرز بالمسيح عن طريق التّقشّف ويمكن أن نكرز به ونحن مختلطون بالرّاقصين ولكن لا أولئك الذين يرقصون رقص هيروديّا 
وقد ينذهل البعض من أن رسائل القدّيسين الغنيّة كلّ الغنى والطّافحة بالنّصائح والإرشادات الرّعويّة العمليّة لا تشير في قليل أو كثير إلى قضيّة الرّقص. لكنّ هناك نصوصاً في العهد الجديد (دون أن تشير إلى الرّقص إشارة جليّة) تقدّم لنا توجيهات عموميّة يمكن السّير في ركابها في مثل هذه الظّروف. فإنّ بعض هذه النّصوص يبرّر موقف الأولاد الذين يزمّرون بالقصب ويدعون رفاقهم إلى الرّقص. وبعضاً غيرهم يبرّر موقف الأولاد الذين كانوا ينوحون حتى أنّهم كانوا يثيرون كآبة السّامعين. هكذا نرى أن موازاة الموقفين الإنجيليّين القانونيّين ما تزال قائمة. فإنّ أنصار الموقف "الواقعي" يستمدّون تأييدهم من بعض النّصوص كتلك القائلة: "كلّ الأشياء تحلّ لي لكن ليس كلّ الأشياء توافق... تمسّكوا بالحريّة التي حرّرنا بها المسيح...ما طهّره الله لا تدنّسه أنت... فإن أكلتم أو شربتم أو مهما فعلتم فافعلوا كلّ شيء لمجد الله" (1كو 12: 6 – غلا 1:5 – أعمال 15:10 – 1كو 31:10). 
أمّا الذين يميلون إلى الموقف السّلبي فإنّهم يذكرون النّصوص التّالية: "الويل لكم أيّها الضّاحكون الآن لأنّكم ستحزنون وتبكون... لا تحبّوا العالم ولا الأشياء التي في العالم... إنّي أموت كلّ يوم... متشبّهاً بموت المسيح... لأنّ الحزن الذي بحسب مشيئة الله ينشئ توبة..." (لوقا 24:6 – 1يو 15:2 – 1كو 31:15 – فيليبي 10:3 – 2كو 10:7). وكلا الفريقين على صواب فيما يرى شرط أن يكون الله هو الدّافع الأوحد العميق لموقفهم الذي عليه يسيرون. 
ولعلّكم تصرّون رغماً ممّا قلت أن تأخذوا منّي جواباً قاطعاً وتسألوني قائلين: ولكن ألم تضع الكنيسة في نظامها نصّاً خاصّاً بخصوص الرّقص؟ ألم ترتّب الكنيسة بهذا الشّأن تفسيحاً أو تحريماً قاطعاً واضحاً؟ إنّنا مضطرون إلى القول إنّه ليس هناك من قوانين تجيز الرّقص أو نحرمه على وجه العموم. فالقانون (23) من قوانين مجمع توليدو (سنة 589) يمنع الرّقص قبل الشّروع في الخدمة الإلهيّة وفي أيّام أعياد القدّيسين، لكنّ هذا المنع ليس عامّاً، فضلاً عن أنّ مجمع توليدو لم يكن مجمعاً مسكونيّاً. والقانون الثّالث والخمسون من قوانين مجمع لاودوكيّة المنعقد حوالي سنة 341 يقول: المسيحيّون الذين يشتركون بالأعراس يجب أن لا يقفزوا أو أن يرقصوا بل أن يشتركوا بالطّعام مع الرّزانة والوقار كما يليق بالمسيحيّين. وههنا أيضاً لا نجد تحريماً قاطعاً شاملاً للرّقص فضلاً عن أنّ هذا المجمع غير مسكوني أيضاً. والقانون (51) من مجمع تروللو المنعقد سنة 692 يمنع المراقص المسرحيّة التي تنعقد في المسارح والمشاهد العامّة والتي تتّصف على وجه العموم بالخلاعة والمجون والاستهتار، ولم يكن هذا التّحريم عموميّاً أكثر من سابقه. لكنّه يضع نصب أعيننا قضيّة لها خطورتها. أمّا القضيّة فهي هذه 

أتحرّم الكنيسة حلقات الرّقص (الباليه) العصريّة يا ترى؟ 
فإن نحن نظرنا إلى تصرّفات الكنيسة مع العصر الحاضر، في الشّرق كان ذلك أم في الغرب، بدا لنا أنّ هذه الكنائس لا تمنع الاشتراك في هذه الحلقات ولا تفرز من جسم الكنيسة الرّاقصين والرّاقصات. إلا أنّه ممّا لا شكّ فيه بالإطلاق في نظري أنّ روح الكنيسة مناقض لمثل هذه الحلقات التي تؤلِّف في واقع الأمر، في جوهرها وفي تسعة أعشارها، عنصراً قويّاً يدفع الإنسان إلى الوقوع في التّجربة وفي الخطيئة يصطاد به إبليس طرائده في حبائله. 
على أنّه يمكن القول أيضاً أنّ هناك أنواعاً من حلقات الرّقص. فإنّ حلقات الزّي القديم كانت مبعثاً على الإغراء والسّقوط في مهواة الشّهوات. أمّا الحلقات الحديثة والحلقات الرّوسيّة على الخصوص فتعبّر أحياناً كثيرة عن حنين القلب إلى الارتفاع صوب العلاء. وقد أراد مرة الفنّان الرّوسي نيجنسكي أن يرقص رقصة انتصار النّعمة على الرّزانة وانتصار الرّوح على المادّة وأن يرقص رقصة الألم الإنساني والصّليب... وقد أدهشتُ مرّة على ما أعتقد جمهوراً من مستمعيّ إذ أخبرتهم في إحدى محاضراتي أنّ حلقة الرّقص الرّوسيّة تكمّل في العصر الحديث، سواء بنزعتها وبحنينها الرّوحي العميق أو بتعبيرها الفنّي السّامي، التّصوير الرّوسي للإيقونات في القرنين الخامس عشر والسّادس عشر 
ليس من قانون كنائسي واضح صريح اليوم يمكن الاستناد إليه والقول معه إنّ "الرّقص جائز" أو إنّ "الرّقص ممنوع". ونزراً لعدم وجود مثل هذه القوانين أفي وسعنا أن نجد استلالات أو إشارت مفيدة تضيء السّبيل أمامنا في ما خلّفه لنا آباء الكنيسة من الكتابات؟ ففي كتابات أرنوبيوس مثلاً والقدّيس أمبروسيوس والقدّيس إيرونيموس والقدّيس أوغسطينوس والذّهبي الفم نلقى نصوصاً واضحة تندّد بكلّ نوع من أنواع الرّقص. إلا أنّه ممّا يجب أخذه بعين الاعتبار أنّ آراء هؤلاء الآباء ليس لها قوّة القانون. وهو صحيح. ويمكن القول أيضاً إنّ الآباء كانوا يقصدون المراقص اليونانيّة – الرّومانيّة الخلاعيّة الدّافعة إلى الشّهوات الجدسيّة والباعثة على الدّعارة والفحشاء وإنّ أحكامهم تلك لا تستهدف المراقص العصريّة في حال 
وهذا صحيح في معظمه. لكنّه ممّا لا شكّ فيه أيضاً أنّ من يعرف عقليّة الآباء حقّ المعرفة ويستطيع أن يدخل إلى صميم أعماقهم يصعب عليه التّهرّب من الشّعور بأنّ الآباء كانوا يشمأزّون من الرّقص لا بسبب بعض ما يرافقه من المخازي بل بسبب ما فيه من تنافر ومنافاة واصطدام مع روح الإنجيل على وجه العموم. وقد انتهى الأمر برجال الإكليروس عمليّاً في الشّرق والغرب معاً إلى التّسامح في قضيّة الرّقص وغضّ النّظر عنها. 
ويرجع ذلك في الشّرق إلى الأمر الواقع وهو أنّ الإكليريكي المتزوّج المنبثق من الشّعب والمتّصل به اتصالاً وثيقاً لا يسعه الاصطدام بالعادات الشّعبيّة. وانتهى الأمر في الغرب باللاهوت القانوني إلى السّماح بالرّقص والقبول به. فإنّ توما الإكويني يعلّم أنّ الرّقص ليس شيئاً رديئاً في حدّ ذاته وكفى، بل إنّه يمكن أيضاً أن يكون شيئاً ممدوحاً مستحقّاً للثّواب إن مارسه الإنسان تحت تأثير فعل النّعمة. ومثال ذلك رقص الإنسان عن إذعان لأمر والديه أو عن عمل رحمة نحو الآخرين. وهو يضمّ الرّقص إن جرى على هذا المنوال إلى الفضيلة المسمّاة باللغة اليونانيّة (انتراباليا) أي التّرويح عن النّفس أو الابتهاج الطّاهر النّقي.
 إنّ وجهة النّظر هذه معقولة ما في ذلك ريب. إلا أنّ هناك صدّيقين آخرين من اللاتين (ككاهن أرس مثلاً) يرفضون الرّقص رفضاً باتّاً ويقولون عنه إنّه شرّ صرف لا خير فيه البتّة وإن صرّح اللاهوتيّون بأنّه مسموح به. 
ويبدو الآن كما ترون أنّنا لم نتقدّم خطوة واحدة عن نقطة انطلاقنا. فلنشرح الأمر إذن على شكله النّافر الصّريح. لو جاءني فتىً أو فتاة وسألني كلّ منهما قائلاً: أفي وسعي أن أذهب فأرقص؟ فأنا لا أقدر أن أجاوبهما قائلاً: كلا، الرّقص غير جائز: لأنّي لو أجبتهم كذلك لكنت تجاوزت تعليم الكنيسة وسلطاتي الخاصّة. لذلك أجاوبهم بدلاً من ذلك: لنبحث سويّة هذه الحادثة الخاصّة. فإنّه يجب علينا أوّلاً أن نعرف نوع هذا الرّقص. أيكون من النّوع الطّاهر. أو مشبوهاً أو خبيثاً؟ ثم إنّه يجب علينا أن ننظر إلى الأمر من وجهة النّظر المختصّة بالموضوع. فإنّ بعض الرّقصات التي تكون غير مذمومة في حدّ ذاتها يمكن أن تنقلب فتصبح خطرة مع شخص مزاجه الأدبي ضعيف سريع العطب أو بداعي نيّات الرّاقصين. وبالعكس فإنّ رقصة أخرى مذمومة في ذاتها قد لا تكون سبباً للخطر على مزاج متين صلب العود. لذلك يجب على الإنسان أن يحسب حساب الظّروف الخارجيّة: الزّمان والمكان والوسط والفضائح الممكنة الوقوع وما إلى ذلك (كلّ الأشياء تحلّ لي لكن ليس كلّ الأشياء توافق) هذا ما يقوله الرّسول بولس (1كو 12:6). فإنّه في مثل هذه الحال يجب وزن الأمور في مختلف عناصرها وزناً دقيقاً لكي يستطيع الإنسان أن يستخلص منها فكراً صحيحاً. وأخيراً هاكم هذا الاستنتاج: لا شرّ من الاشتراك في هذه الرّقصة: أليس هذا استنتاجاً صحيحاً؟ لأنّنا متى شرحنا قضيّة الجائز وغير الجائز وجدنا أنّ الرّوح الرّاغبة عن إخلاص في عمل مشيئة الله تذهب إلى أبعد من هذا وتسائل نفسها: ترى ما لذي يريده الله منّي في هذا الظّرف؟ فإنّه إذا كانت كلّ الأشياء متساوية فما هو القرار الذي يحظى ببركة الله؟ والذي يعطي الجواب عن هذا السّؤال لن يكون الكاهن ولا المرشد الرّوحي. إنّ مهمّة هؤلاء تنحصر في إنارة السّبيل وتهذيب الرّوح وإيقاظ الضّمير أمام السّائل أو السّائلة كي يستطيع هذا الضّمير في نور كامل وحريّة شاملة أن يتبصّر ويتبع الطّريق الخاصّ (فإنّ هنالك طرقاً متعدّدة كتعدّد الأشخاص) التي يريده الله أن يتبعها
ومن الواجب أيضاً أن نأخذ بعين الاعتبار وعلى حدة، الفتيان والفتيات المرتبطين بنظام روحي خاص كالكهنة والشّمامسة والرّهبان والرّاهبات. فإنّ إعمال الفكرة في حال هؤلاء وردّ الفعل التّهذيبي في الرّأي العامّ بشأنهم يفرض عليهم الامتناع عن الرّقص بالإطلاق. وفي مقدورنا أيضاً أن نقول إنّ العلمانيّين المرتبطين برباط الطّاعة لأب روحي إنّما هم مرتبطون أيضاً بمثل هذا القيد الخاصّ. وحالهم كحال العلمانيّين الذين يريدون أن يحيوا في العالم حياة زهد وأخيراً أيضاً العلمانيّون الذين ينتمون إلى منظّمات دينيّة معلومة. فالفئة الأولى من هذه الفئات الثّلاث لا علاقة لنا بها لأنّها قضيّة خاصّة بين الأب الرّوحي وتلميذه. 
أمّا موقف "الزّهّاد العائشون في العالم" (وهي فئة معترف بها في الكنيسة المسيحيّة حتى قبل ظهور النّسك والتّوحّد) فموقف جدّ صعب. والمطلب الذي يُطلب منهم ليس أن يكونوا "أكثر كمالاً" من الآخرين لأنّ الكمال القائم في جوهره على الرّحمة ليس درجة عليا اختياريّة للحياة المسيحيّة بل فرض واجب على جميع المسيحيّين (كهدف يجب الوصول إليه على الأقلّ). فقضيّتهم قائمة بالأحرى في التّمييز بين ما "واسطة للكمال" وما لا "يؤدّي إلى الكمال". والتّاريخ يشير إلى أنّ هؤلاء الزّهّاد العائشين في العالم اعتبروا الامتناع عن الملاهي، مع إعطاء هذه الكلمة أوسع معانيها، منهاجاً قانونيّاً نظاميّاً للكمال الرّوحي يسيرون عليه. والرّقص يكون عندهم لا عملاً مستحيلاً أو فظيعاً بل عملاً غير اعتيادي ومستثنى يبرّره فقط بعض الأسباب الخاصّة الموجبة المقبولة لدى الله الموحى بها منه
 وأخيراً فلنقترب من قضيّة المؤسّسات المسيحيّة (كحركة الشّبيبة الأرثوذكسيّة وزويي وغيرها). فقضيّة الرّقص عند أعضاء مثل هذه المؤسّسات تدخل في مجموعة قضايا متشابكة متقارنة: ارتياد الملاهي والمسارح ودور السّينما وما إلى ذلك: أيكون إذن من المستحسن أن تتّخذ بهذا الشّأن قرارات قانونيّة باتّة قاطعة ماضية؟ لقد خطت عدّة منظّمات مثل هذه الخطوة. وأظنّ دون أن أستطيع أن أؤكّد أنّ حركة زويي في بلاد اليونان لا تجيز الرّقص. فمن جهتي أنا لست مقتنعاً شخصيّاً بمنافع وضع القوانين والقواعد والأنظمة القاطعة ولذلك فإن أرادت حركة الشّبيبة الأرثوذكسيّة أن تتّخذ لها في هذه القضيّة موقفاً خاصّاً فإنّي أرى أن يكون هذا الموقف على شكل توصية أكثر منه على شكل أمر. وفي أيّة جهة يجب أن تسير مثل هذه التّوصية يا ترى؟ وههنا أيضاً أخشى من أن لا أرضي أولئك الذين يفضّلون البتّ في نوع اللون. فإمّا الأبيض وإمّا الأسود. أنا أتمنّى أن توطّد هذه النّصيحة أو التّوصية، كقاعدة عامّة، المبدأ المزدوج القائل من جهة "إنّ الرّوح تهبّ حيث تشاء" (يو 8:3) ومن جهة ثانية "أنتم أموات وحياتكم مستترة مع المسيح في الله" (كولوسي 3:3). فمن هذا المبدأ المزدوج لا يصعب على الرّوح المخلصة الواعية أن تستخلص مقرّرات توضح طريقاً عامّاً للزّهد في العالم مع استخدام حريّة المسيحي السّامية. ولا أنفي عندئذ أبداً إمكان الوصول إلى قرار حاسم أكثر مضاء، ولا أقول أكثر بطولة، بل أكثر وضوحاً ومعنىً أمام النّاس ولعلّه يكون أوفر ثمناً وأكثر جهداً للإفراد تتّخذه المؤسّسة (حركة الشّبيبة الأرثوذكسيّة) تحت فعل نفحة الرّوح يقطع على نوع ما بالسّيف بعض النّزعات والرّغائب الجسديّة: وعندئذ يكون الرّقص إحدى هذه النّزعات والرّغائب التي نكفّ عنها ونقلع بعدل 
ففي بيت الله مكان للمحاربات المقدّسة. وفيه أيضاً مكان للمصالحة المباركة. لكنّه مهما يكن الموقف الذي تقفه حركة الشّبيبة الأرثوذكسيّة من هذه القضيّة فإنّ أعتقد أنّه يجب أن لا يكون ناتجاً عن محاورات ومجادلات ومباحثات ولا عن مراسيم تصدر عن القادة. بل أرى بالأحرى أن يصير الاستعداد لتحضير مثل هذا القرار في أيّام رياضة واعتزال وصمت وصوم وصلاة. لأنّ القرار الذي يصدر في مثل هذه الحال يكون وحياً إجماعيّاً وثمرة ناضجة قد نضجت تحت فعل شمس الرّوح القدس. ويكون هذا القرار أيضاً قراراً صالحاً لأنّ حركة الشّبيبة الأرثوذكسيّة تكون قد اتخذته لا بمشيئتها بل بمشيئة الله. 
قال القدّيس بولس "أنتم لستم تحت النّاموس بل تحت النّعمة" (رومية 14:6). إنّ هذه الكلمة تنطبق أيضاً على قضيّة الرّقص. إنّها ليست قضيّة دساتير وقواعد عامّة أكثر منها قضيّة تسليم إرادة الفرد لإرادة الله عند كلّ قضيّة بمفردها. إنّ إرادة الله لها مرامٍ متعدّدة النّواحي جدّاً. فالله يتطلّب من أحدنا مثلاً أن يذهب ليظهر رحمة الله ومحبّته في رقصة يقوم بها، وممّا يجب أن لا يفوت القارئ هنا أنّي لست أقصد بهذه الكلمة "مراقص الرّحمة التي نتج عنها كثير من المخازي والفضائح والقبائح التي لحقت بالمساكين والفقراء، ويطلب من الآخر أن يعلن، بامتناعه عن الرّقص، طهارة الله المطلقة. وهذه المشيئة الإلهيّة يجب أن تُطاع في كلا الظّرفين. ولكنّه يجب أن نحذر من أن نتّخذ من مفهوم الرّحمة استسلاماً للجوانب البشريّة، كالجوانب الجسديّة مثلاً، مثلما نتّخذ من التّحفظ في المعاشرة والصّلابة والشّدّة والصّرامة مفهوماً للقداسة. إنّ ما تقرّره يكون حسناً إن أنت قرّرته من أجل الله ومع الله وفي الله
فيا بنيّ! يا من تطلب إليّ أنا الكاهن الحقير أن أعلّمك عمّا إذا كان في وسعك أن ترقص أم لا، دعني أرسلك إلى المعلّم الوحيد المعصوم عن الخطأ الذي يعلّمك عمّا يجب أن تفعل. ضع نفسك في الرّوح أمام المصلوب عند الجلجلة. واركع أمامه. وتأمّل ذلك الرّأس المنحني انحناءة الطّاعة للآب وانحناءة العطف علينا. تبصّر تينك الذّراعين الممدودتين اللتين تدعواننا إليهما لحمل أثقالنا. أمعن النّظر في ذلك الجنب المطعون بالحربة ومنه يتدفّق ذلك الدّم الذي هو سبب خلاصنا. تأمّل تلك الحياة الممنوحة لنا والمبذولة من أجلنا. أعمِل الفكرة في تلك الآلام التي احتملها المصلوب والتي نتجت عن ركضنا وراء اللذّة وتهافتنا على الخطيئة. احفر هذه الصّورة في صميم قلبك، وعندئذ ترى إلى أين يرسلك المصلوب، وقرّر عندئذ إن كان في وسعك أن تذهب إلى المراقص لكي ترقص فيها. وكما قال القدّيس بولس "كلّ واحد فليمتحن نفسه" 1كو 28:11


الاب  ليف جيلله
ارشيف مجلة النور عام 1951
orthodoxlegacy.org