محنة العقل في البحث عن الله

أقليل هم الّذين يخلصون؟
 هذا سؤال طرحه التّلاميذ على الرّبّ يسوع المسيح له المجد. جوابه، الّذي لم يكن جوابًا بالمعنى الدّقيق للكلمة، كان:
 اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيِّق (لو 13).
لفظتان مفتاحيّتان هنا: "اجتهدوا" و "ضيِّق". ثمّة حاجة إلى الاجتهاد للدّخول. هذا لا يأتي تلقاء أو بيسر أو برخاوة. وثمّة حاجة إلى المعرفة أنّ الدّخول مشوب بالضِّيق. هذا يذكِّر بالقول الكتابيّ: "بضيقات كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت السّموات".
على أنّ اللافت في جواب يسوع أنّه لم يُجب التّلاميذ على سؤالهم بل، كأنّه، على سؤال كان ينبغي أن يطرحوه، ذي علاقة بالخلاص. سؤالهم نظريّ ولا علاقة له بخلاصهم. إذن لا قيمة له ولا معنى ولا فائدة!
يكفيهم، إذا ما أرادوا أن تطمئنّ قلوبهم، أن يعرفوا أنّ الله محبّة وأنّه يشاء للجميع أن يخلصوا وإلى معرفة الحقّ يُقبلوا. الأسئلة النّظريّة، وإن كانت عاديّة في الأفهام ومثار اهتمام بين النّاس، فلا محلّ لها في قاموس الله.
 والسّؤال السّاقط، عند الله، لا جواب عليه.
الهمّ والمهمّ المنفعة للخلاص فيما يطرحون. هذا يعيد إلى الذّاكرة رواية ذاك النّاسك الّذي جاء عالِمٌ وطرح عليه أسئلة بشأن مسائل لاهوتيّة نظريّة فلم يجبه بشيء ولزم الصّمت. فلمّا سأله عن خطيئة نفسه وكيف يجابهها فتح فاه وكلّمه.
 الأسئلة النّظريّة، في المنظور الإلهيّ، لغوٌ للفكر وحشوٌ للذّاكرة وتشويش للنّفس. بها يظنّ المرء أنّه إن طرحها وسعى إلى جواب بشأنها كان بحّاثة وهو، عمليًّا، جاهل.
 السّؤال الخطأ خطأٌ الجواب عليه.
المعرفة الحقّ عند الله خبرة لأنّ الله محبّة وليس عقلاً.
 "أن يعرفوكَ أنتَ الإله الحقيقيّ وحدك وابنكَ يسوع المسيح".
 ولا حتّى الهمّ أن تعرف عنه بل أن يتجلّى لك، أن تكون لك فرصة الدّخول في علاقة معه. هذا هو الخلاص! إذًا المعرفة خبرة لأنّها ذوق وتذوّق لمحبّة الله. فقط مَن يحبّ الله يعرفه، أو بالأحرى مَن يحبّه الله، لأنّه هو أحبّنا أوّلاً. كلّ معرفة غير هذه ساقطة، وكلّ معرفة لا تنهل من هذا المعين ولا تنحو على نحو محبّة الله للعالَمين رُغاوة صابون ذات حجم ولكن لا قوام لها ولا تلبث أن تنحلّ.
ثمّ فقط مَن أحبّ الله أمكنه أن يحبّ الآخرين. وحده بمحبّة الآخرين يشهد المرء لمحبّة الله، أنّ الله يحبّه وأنّه هو يحبّ الله في الآخرين. مَن لا يحبّ الله أوّلاً لا يمكنه أن يحبّ الآخرين.
وإن ظنّ أحد أنّ بإمكانه أن يحبّ الإخوة من دون الله كانت محبّته لهم وهمًا لأنّ المحبّة من الله. فكيف يحبّ الإنسان الآخرين إن لم يحبب الله وتسكن فيه محبّة الله أوّلاً؟  وحده الله محبّة ونبع المحبّة وكلّ محبّة حقيقيّة منه.
 "به كان كلّ شيء وبغيره لم يكن شيء مما كُوِّن".
 محبّة الإنسان للإخوة، من دون الله، درى أو لم يدرِ، مظهر من مظاهر حبّ الذّات في الآخرين، أو ضرب من الأنانيّات المشتركة الّتي تصبّ، في نهاية المطاف، في محبّة كلٍّ لنفسه. المشاعر والعواطف، في إطار عشق الإنسان لنفسه وعبادته لذاته، لها نكهة المحبّة والغيريّة لكنّها ذات طابع نرجسيّ، عشقٌ للذّات في الآخرين. المحبّة الحقّ موقف كيانيّ أوّلاً، لذا ترتبط بالإرادة لا بالمشاعر المموَّهة. لا تستقيم المشاعر إلاّ بعد أن يكون الإنسان قد غصب نفسه، عن قناعة داخليّة، عن إيمان، على السّلوك بمحبّة من جهة الله، بحفظ الوصيّة الإنجيليّة، ومن جهة الإخوة، بمعاملتهم على قدم المساواة ونفسه. المشاعر بحاجة إلى استقامة المشيئة وإلى تنقية الطويّة أوّلاً. بعد ذلك تصدق وتشهد للحقّ.
إذًا المعرفة محبّة والمحبّة علاقة تَقَابُل وتداخُل، هو وأنا. والعلاقة عموديّة، أوّلاً، أي مع الله، ثمّ تنزلّ من فوق، وتنساب انسيابًا لتتمدّد، أفقيًّا، بين النّاس، فتشدّهم أحدَهم إلى الآخر، كمِثْل ما أنشدّ الرّبّ إلى العالمين وشدّهم إليه. للخلاص، في هذا السّياق، بُعدان: 
بُعدُ الخلاص من محبّة الذّات.
 "أَخرِجْ من الحبس نفسي لكي أشكر اسمك".
 وبُعدُ الخلاص بمحبّة الله والإخوة بالمحبّة الّتي يكون المرء قد اتّخذها من محبّة الله.
 "فيه كانت الحياة والحياة كانت نور النّاس، والنّور يضيء في الظّلمة والظّلمة لم تُدركه" (يو 1).
 محبّة الله بالوصيّة الإلهيّة تأتي، وبمحبّة الله تنسكب المحبّة في قلب الإنسان. بهذه المحبّة بالذّات يصير بإمكان الإنسان أن يحبّ قريبه. يقيم في الحقّ والحقُّ فيه.
من هنا أنّ اللاّهوت محبّة، عضويًّا محبّة. واللاّهوتيّ هو مَن يحبّ ومَن يحبّ هو اللاّهوتيّ. خارج المحبّة لا لاهوت وخارج اللاّهوت لا محبّة. كلّ منحى لاهوتيّ لا يصبّ في المحبّة ولا يتجلّى في المحبّة ليس من الله. اسمًا على غير مسمّى يكون! كلام في الهواء أو بين دفّتي كتاب!
وإذا لم يكن اللاّهوت، المسمّى والمتداول لاهوتًا، بين النّاس، من الله فممّن يكون؟ من الشّيطان! بلى، الشّيطان سيِّدُ مَن يتعاطون اللاّهوت ولكن نظريًّا لأنّه الكذّاب وأبو الكذّاب. إذًا، الدّراسة اللاّهوتيّة الّتي تميل إلى الفكر عن القلب، عن الكيان، إخراجٌ للاّهوت من دائرة الله إلى دائرة الشّيطان.
 الدّراسة اللاّهوتيّة قرينة الحياة الرّوحيّة أو تسقط مهما كانت، في ذاتها، فذّة، لأنّ اللاّهوت ليس قائمًا، في ذاته، كفكر دماغيّ، ولا هو عن الحياة الرّوحيّة بديل، ولا الحياة الرّوحيّة مساوية لأيّ نشاط فكريّ، كائنًا ما كان.
 في الإطار العقلانيّ البحت تستحيل الإلهيّات شيطانيّات. تمسي إسمًا على غير مُسمّى. وشيطانيّاتٍ تصير لأنّها تكون صورة عن الشّيطان، الّذي كان، كمخلوق، بدءًا، من الله، ثمّ قطع ذاته عنه بفكر القلب، وبات كأنّه قائم في ذاته؛ لذا أضحى شيطانًا.

كلّ هذا يؤول بنا إلى الاستنتاج أنّ معاهد اللاّهوت الّتي لا تخرّج طلاّب قداسة وعشّاقًا لله، بل مفكِّرين وعلماء، هذه تخرّج، في العمق لا على السّطح، في الخفاء لا في الظّاهر، تلاميذ لعبادة الذّات باسم الله، وعملاء للشّيطان باسم المعرفة!
أكبر وأخطر هرطقة حيال كنيسة المسيح، اليوم، أن نتعاطى اللاّهوت كفكر، كمادة دماغيّة. هذا تكريس لسقوط الإنسان حتّى يموت في خطيئته الّتي هي حبّ الذّات!
 إنْ تحصُرِ اللهَ في العقل تقتلْه! وأنت تقتلُه لأنّك تجعله فكرة وتتعاطاه كفكرة. والفكر نتاج العقل. الله يصير نتاجًا عقليًّا، إذًا من ابتداع الإنسان. لذا لا يكون الله حيًّا بعدُ ولا يكون له حضور موضوعيّ، ولا يمكنك، من بعدُ، أن تكون على علاقة به. لا تقوم علاقة إلاّ بين ذات وذات. والعلاقة تقوم في مستوى الكيان، في مستوى القلب، ولو كان لها امتداد فكريّ، وتعبير فكريّ. لكن القلبَ محورُها.
 ثمّ الله محبّة وليس فكرة كما قلنا. الفكر لا يحبّ، القلب يحبّ. الفكر ينظر في الحبّ أمّا القلب فيعتمل بالحبّ. لذا تجلّي الله يكون في القلب، وفي القلب مُقامُه.
فلا عَجَب، إن قلنا، إنّ الله، في الجامعات، في الغرب، شقّ طريقه، بدءًا من مطلع القرن الثّالث عشر، للخروج من حيِّز القلب والكيان، وجُعل في مستوى العقل والمقولات الفكريّة.
 من هناك أخذت صورة الله تبهت وشرع الله، كحضور، يحتضر في الوجدان، إلى أن أعلن نيتشه الألمانيّ موته! وهو في حكم الميت في كلّ التّراث الجامعيّ الممتدّ، مذ ذاك، في كلّ العالم، إلى اليوم. مهما حاولنا استعادة الله في إطار الجامعات والمعاهد فلا يمكننا أن ننجح. ليس الموضوع موضوع دراسات جديدة ولا أفكار جديدة ولا أبحاث مبتكرة.
الإلهيّات أُخرجت من سياقها والله ميت فيها في كلّ حال، وغير موجود، لأنّ الفكر شرد. بات الإنسان يبحث عن الله حيث لا إله! طيَّبَ الرّبّ الإله ثرى ذاك الرّاهب الكاثوليكيّ الّذي قال لي، مرّة، في لحظة تجلٍّ:
 إنّ عندنا رهبانًا علماء كثرًا وعندنا رهبان قدّيسون أيضًا، ولكنْ ليس عندنا علماء قدّيسون! لذا لا عودة إلى الحياة الإلهيّة إلاّ بالعودة إلى المحبّة الأولى، على ما كُتب لملاك كنيسة أفسس: "عندي عليك أنّك تركت محبّتك الأولى. فاذكر من أين سقطت وتُب واعمل الأعمال الأولى... مَن له أذنان فليسمع ما يقوله الرّوح للكنائس..." (رؤ 2: 4 – 5، 7).
المحبّة الأولى بحاجة إلى توبة، والتّوبة إلى عودة، والعودة هي عن ممارسة فاسدة مفسِدة، والممارسة الفاسدة هي أنّ الإنسان بات هو المتكلّم. صادر الكلام، وأحبّ ما هو من ذاته. لذلك سكت الله ولم يعد الكلمةُ، وجوديًّا، حالاً بيننا (يو 1: 14).
ملأنا الدّنيا كتبًا وأبحاثًا ودراسات وأبنية فكريّة بحثًا عن الحقّ وعن الله عبثًا ولمّا نجده ولن نجده لأنّ الله ليس فكرة ولا عقلاً بل قلب! لذا لا بدّ من التّوبة، من تغيير القلب والفكر.
الحاجة هي لأن نسكت ليتكلّم الله، ليكشف لنا ذاته مرّة أخرى. "تكلّم يا ربّ فإنّ عبدك يسمع". بالصّوم، بالصّلاة، بحفظ الوصيّة، بقطع المشيئة، بالمحبّة، بتعاطي كلّ فضيلة، بالتّواضع، بالصّبر، بالرّحمة، بالطّاعة، بإفراغ الذّات من الأنا، بالامتلاء من الـ "أنت"، من مشيئة الله،
 يكشف الرّبّ الإله نفسه من جديد. بمعرفة الإنسان نفسه أنّه لا يعرف. "غبيّ أنا ولا معرفة عندي". بوعي الإنسان نفسه أنّه ضعيف. "أفتخر، بالحريّ، بضعفي، لكي تحلّ عليّ قوّة المسيح". بإدراك الإنسان أنّه، في ذاته، عاجز عن إرضاء الله. "علّمني أن أعمل رضاك لأنّك أنت هو إلهي". بسعي الإنسان إلى تمثُّل النّور الّذي من فوق ليرى. "وبنورك نعاين النّور". بحسبان الإنسان كلّ ما لديه خسارة "من أجل فضل معرفة الله". النّفس الّتي لا تَفرغ من ذاتها تلبث في غربة عن الله. بالبكاء والمسوح والرّماد استعاد أهل نينوى موقعهم عند ربّهم. تابوا فتاب عليهم وصفح عنهم وعاد إلهَهم من جديد. كذا بالانكسار حتّى، بالاتّضاع والدّمعة، نستعيدَ ما ضاع ويستعيدَنا مَن تخلّينا عنه...
فإلى أن يصير الله إلهَنا من جديد يبقى لنا مجمعُ آلهة مختلق، أوّله حبّ الذّات وآخره حبّ الذّات، مرورًا بكلّ ما عَبَد الإنسان من أصنام فكريّة من جهة تمجيد نفسه باسم الله، علومًا وفنونًا وآدابًا وحرّيّات ونظمًا وفلسفات ومؤسّسات!



الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي – دوما
holytrinityfamily.org
14 شباط 2010