المؤسّسات الإنسانيّة الكنسيّة

 ثمّة مؤسّسات تابعة للكنيسة، اليوم، يطغى عليها الطابع التجاري رغم كون الخدمات التي تتعاطاها من فئة الإنسانيّات.
 أقصد بالتجارة، هنا، تقديم الخدمات الإنسانيّة مقابل بدل مالي. هذا يَصحّ على المدارس والجامعات والمستشفيات وما شاكلها.
  لا شكّ أنّ هذه المؤسّسات، من حيث تبعيّتها للأوقاف الكنسيّة، تعاني أزمة هويّة. مؤسّسات دهريّة في الكنيسة! تملكها الكنيسة، ومع ذلك لا تخدم أغراضاً كنسيّة تراثيّة.
 الكنيسة، في المبدأ، لا تتعاطى التجارة. تراثيّاً، المؤسّسات ذات الطابع الخدماتي الإنساني، في الكنيسة، مرتبطة، عضويّاً، بخدمة المحبّة المجّانيّة، بخدمة الفقير، بما يُعرف بـ "خدمة الموائد".
 هذه تعتمد، أساساً، في تكوينها وخدمتها واستمرارها، على عنصرين أساسيَّين مستمدَدَين، مباشرة، من إيمان عامة المؤمنين ومحبّتهم لله وبعضِهم للبعض الآخر: تقدمات المؤمنين وإنخراطهم في العمل التطوعي في هذه المؤسّسات. المؤسّسات الراهنة، التي أشرنا إلى فئاتها أعلاه، لم تعد تعتمد لا على تقدمات عامة المؤمنين ولا على عملهم التطوّعي، ولم يعد المؤمنون، بعامة، يشعرون بأنّها تعتمد عليهم لتستمر لذا لا يعتبرون أنفسهم معنيّين بتأمين استمراريّتها.
اعتمادها صار على مصادر أخرى وعلى تعاطي تجارة الخدمات الإنسانيّة. كما بات الذين يخدمون فيها من الفعلة المأجورين. طبعاً، لا زال بعض هذه المؤسّسات يسعى وراء تقدمات الناس، ولكن لا في إطار العطايا كـ"بَرَكات" من المؤمنين، بل في نطاق ما صار يُعرف بـ "الحملات الماليّة". تلك تعتمد على غيرة المؤمنين وهذه على قناعات إنسانويّة ودهريّة. "الحملات الماليّة" تطال، بخاصة، الأغنياء، مؤمنين وغير مؤمنين، من داخل الكنيسة ومن خارجها، وتعتمد على المؤسّسات التي لا طابع دينيّاً لها بالضرورة، وكذا على جمع التبرّعات وإقامة الحفلات في كنائس الاغتراب ظنّاً من المؤمنين هناك أنّهم بذلك يساعدون المحتاجين في مؤسّسات الكنيسة الأمّ.
 لكنْ لا تذهب هذه التقدمات لتعزيز خدمة المحبّة أو مساعدة الفقراء المحتاجين إلى خدمات هذه المؤسّسات هنا، بل لتعزيز المؤسّسات عينها، لإنمائها وتأمين مستقبلها وتوسيعها وتحديثها... هذا لا يمنع، طبعاً، أن تقدِّم هذه المؤسّسات بعض المساعدات والمِنَح، هنا وثمّة، ولكنْ بقدر محدود، أو حتى محدود جدّاً، وتُعطى، بعامة، لمَن لهم وسطاء لدى المسؤولين عن هذه المؤسّسات، محتاجين وغير محتاجين! يُشار إلى أنّه لا فرق، في هذه الممارسة، بين المؤسّسة الإنسانيّة الكنسيّة وغير الكنسيّة.
عمليّاً، صارت لدينا، في الكنيسة، مؤسّسات مستقلّة عن الكنيسة وروحِها ورؤيتها وشهادتها. هذه تعمل باسم الكنيسة دون أن تخدم أغراض الكنيسة. لذلك همُّنا، واقعاً، بإزاء هذه المؤسّسات، بات أن تبقى وتستمر، دون أن نجد سبيلاً إلى جعلها في خدمة الكنيسة كما نشتهي. السبب أنّ تركيبتها لا تسمح! طبعاً، بعض الأبرشيّات، مالك هذه المؤسّسات، يستفيد من بعض خدماتها، لكن رؤيتها ليست كنسيّة بحال. لا فرق يُلتَمس، إلاّ بالاسم، وبعض التفاصيل غير الأساسيّة، بينها وبين مؤسّسات هذا الدهر.
 في وقعها الراهن، إذا ركّزت هذه المؤسّسات على خدمة الفقير، في هذا النطاق أو ذاك، انهارت. لكي تستمر تحتاج إلى مَن يدفع ثمن الخدمات التي تقدّمها، الفقير ليس بإمكانه أن يدفع. إذاً الفقير قلّما يستفيد من خدماتها. هذا يعطِّل الإنجيل! إذاً ترانا نقول شيئاً ونجدنا مُجبَرين على فعل شيء آخر! نقول بمحبّة المحتاج ونُعرض، على أرض الواقع، عنه. نتغنّى بخدمة العاجز ولا نقدر أن نخدم غير القادر على الدفع.
 عمليّاً، لا تعود الكنيسة بيت محبّة الله والقريب كالنفس، بل بيت المرامي الدهريّة، نظير ما في العالم، وكذا بيت الكلام الطنّان على المحبّة! هذا يجعل المؤسّسات، في وضعها الراهن، لا فقط لا تخدم الإنجيل، بل تسيء أيضاً إلى الله وكنيسته وفقرائه. كم من فقير إلى العِلم والمعرفة، وتالياً إلى تحصيل الرزق، توصَد دونه أبواب المؤسّسات التربويّة الكنسيّة لأنّه عاجز عن الدفع؟! هذا يبطل قيمة هذه المؤسّسات في الكنيسة! وكم من فقير مريض لا يعالَج لأنّه لا مال لديه؟! هذا يطيح معنى المؤسّسات الصحّيّة في الكنيسة ويلغيها!
لا شكّ أنّ وجود العديد من المؤسّسات الإنسانيّة في الكنيسة أضحى عبءً وفخّاً! لا إذا أَبقيتَ عليها تنتفع، إنجيليّاً، منها وتشهد، من خلالها، لوجه ربّك، ولا يمكنك أن تجعلها، في واقعها الراهن، في خدمة الكنيسة، كما لا يمكنك أن تتخلّص منها. تقوم عليك الدنيا ولا تقعد! وبعد ذلك عليك أن تتحمّل وزر التجديف على اسم الله بسببها! ثمّ أخيراً وليس آخراً، تجد العديدين يفتخرون بأنّ عندنا في الكنيسة مؤسّسات! قوّة الكنيسة، بالنسبة إلى هؤلاء، هي، بكلّ أسف، في مؤسّساتها!
من جهة أخرى، ثمّة مَن يظنّ أنّ في المؤسّسات الكنسيّة الإنسانيّة تعزيزاً للعِلم والثقافة والفنّ والخدمات الصحّيّة وما شاكلها. هذه يعتبرونها شهادة كافية للإنجيل. ولكنْ ما قيمة العِلم والثقافة والفنّ والخدمات الصحّيّة إن لم تكن هناك محبّة؟ الله محبّة والإنسان محبّة. هذا هو الإنجيل وهذه شهادتنا. لا قيمة لشيء في هذه الدنيا إلاّ إذا كان إيقونة محبّة وثمرة محبّة. ولا شيء يحدّث عن الإنجيل بأمانة، لا علمٌ ولا ثقافة ولا فنّ، ما دمنا نقدّمه على المحبّة ونُبرزه بمعزل عن المحبّة.
 لا شكّ أنّنا، بإزاء المؤسّسات الإنسانيّة الطابع، التابعة للكنيسة، والحال هذه، في مأزق حقيقي! ولعلّ هذه مشكلة الأوقاف بعامة. لا إذا احتفظنا بها نستفيد منها، ولا إذا استفدنا منها تذهب الفائدة، إلاّ قليلاً، إلى المحتاج. تذهب، في معظم الحالات، إلى بناء المؤسّسات أيضاً وأيضاً وإلى المنافع الشخصيّة! لا نقدر أن نتخلّص منها ولا نريد، ونفاخر، أحياناً، بما لدينا. تغذّي غرورنا وتنمّي شعورنا بالقوّة! ربما إذا جَرَفَنا السيل (!) نتحرّر منها! قبل استيلاء الشيوعيّة على رومانية كانت للكنيسة أوقاف هائلة وكانت تطرح مشكلات جمّة. فلمّا وضع الشيوعيّون أيديهم على معظم ما للكنيسة شعر الكثيرون بالأسى.
 أحد الآباء المستنيرين هتف متهلّلاً: "الحمد لله! هذه نعمة من عنده. الآن صار بإمكاننا أن نسلك بحريّة، وأن نبدأ من جديد. عبءٌ وتخلَّصنا منه!" يوم تؤخذ الأوقاف منّا، بطريقة أو بأخرى، لسبب أو لآخر، تكون لنا فرصة أن تتحرّك غيرة المؤمنين فينا لنعود ونبني المؤسّسة الحيّة المحبّيّة من جديد! إذ ذاك، على الرجاء، يصير بإمكاننا أن نستعيد كنيسة الروح القدس الساكن فينا! لا شكّ أنّ الأوقاف عطّلت فينا المحبّة والاتكال على الله، إلى حدّ بعيد، وجعلتنا مغترّين بأنفسنا، طلاّب قوّة وسلطة ومجد وتبلّد في هذا الدهر!


الأرشمندريت توما بيطار
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي – دوما
17 أيار 2009
holytrinityfamily.org  عن