الكنيسة والقوميات

القومية أرض ولغة وتاريخ وطموحات. طبيعي أن ينتمي كل إنسان إلى موضع ولسان وحضارة وتطلّعات. على أنّ في القومية أنانية جماعية تتنافر وأنانيات جماعية أخرى.
 هذا لا شأن للكنيسة به، في المبدأ، ولا للمؤمن. الكنيسة انفتاح على العالمين لأنّها جسد سيّد العالمين. الكنيسة، من جهة الناس، محبّة تساوي المؤمنين بكل الناس. لا جدار بين المؤمن وربّه لذا لا جدار بين المؤمن والناس. قد يكون لأقوام فكرٌ عالمي يجعلهم يتآلفون لأن مصالح مشتركة تجمعهم أو يتصارعون لأن مصالح متضاربة تفرّقهم،
 أما نحن فلنا فكر المسيح. ليست لنا مصلحة مع أحد أو ضد أحد في هذه الدنيا. والقولة الإلهية هي: "مَن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فأعطه الرداء أيضاً". إذا كانت القنية أصلَ كل الشرور فليست لنا طموحات في هذا العالم. نكتفي بالقليل. "إذا كان لنا قوت وكسوة فلنكتفِ بهما". فإنّه "ليست لنا ههنا مدينة باقية بل نطلب الآتية".
 لذا لا تتلاقى الكنيسة والقوميات. القوميات تسيء إلى الكنيسة وتجرحها وتشوّش على المؤمنين خلاصَهم واجتماعهم ووحدتهم وروح السلام والاتفاق فيما بينهم.
 هذا المعطى، من جهة فكر الكنيسة، يُفترض به أن يكون بديهية لكن الحاصل غير ذلك. القومية، واقعاً، متفشّية في الكنيسة تفشّياً كبيراً والكنيسة، بإزائها، في معاناة صعبة، ليس أقلها التشرذم والصراع بين أبناء الإيمان الواحد، وأحياناً في المكان الواحد.
أول ما كانت مواجهة هذه المشكلة في الكنيسة بين القومية اليهودية والأمميّين. صراع الرسول المصطفى بولس ضدّ المتهوِّدين في الكنيسة كان شرساً. كان المتهوِّدون يتمسّكون بالختان رمزاً لقوميتهم.
 كانوا يُصرّون على أن يُختَن من الأمم كلُّ المقبلين بالإيمان بيسوع إلى كنيسة المسيح. فتصدّى الرسول بولس لأزمة الغرلة (الأمم) والختان (اليهود) وأبدى أنّه "ليس الختان شيئاً وليست الغرلة شيئاً بل حفظ وصايا الله" (1 كو 7: 19).
الموضوع موضوع تخطٍّ لكل ما يمكن أن يسيء إلى وصايا الله، إلى المحبّة. من هنا كلامه على ختان القلب بالروح، أي على نقاوة القلب بإزاء الختان وفقاً للشريعة. "ختان القلب بالروح لا بالكتاب هو الختان" (رو 2: 29). بكلام آخر الناس، كل الناس، للناس، لتكون فيهم محبّة الله. طبعاً كان للختان وجه إلهي. هذا لأنّ الربّ الإله شاء أن يجعل اليهود شعباً خاصاً به مروضاً له، على قلبه، يكون رسولاً حبيباً أميناً له إلى أقصى الأرض. فلما تعاطى اليهود الختان رمزاً قومياً لهم انحرفوا وراموا أن يكون الله، بالعكس، مروضاً لأهوائهم ومطامحهم. بكلام آخر مسخوا الشريعة فألّهوا قومياتهم وألّهوا أنانياتهم الجماعية. هكذا شوّهوا صورة الله وجعلوا الآخرين يجدّفون على اسم الله.
هذه كانت، أبداً، في تاريخ الكنيسة، نقطة وجع ولا زالت إلى اليوم. أكبر معاناة الكنيسة اليوم في العالم ذات طابع قومي. الصراع بين الكنيسة الروسية وكنيسة القسطنطينية، ومن يدور في فلك هذه وفي فلك تلك، صراع قومي بالدرجة الأولى. الصراع في كنيسة القدس هو، قبل كل شيء، صراع بين القومية اليونانية والقومية العربية. ذوو المنحى القومي اليوناني لا يزالون يعضّون الإصبع إلى اليوم، ندماً، أنّهم خسروا الكرسي الأنطاكي إلى العروبية كما يظنّون. ولعل المعاناة الكبرى، في الوقت الحاضر، هي للكنيسة في الأميركتين وأوروبا الغربية وأوستراليا وسائر العالم الذي انتقلت إليه الأرثوذكسية حديثاً في التاريخ. وجع الكنيسة في الأميركتين، بخاصة، كبير. وحدة الكنيسة هناك ممنوعة لتضارب المشاعر القومية بين شتى الجماعات الأرثوذكسية. هذه الفئات، بالرغم من وحدة الإيمان والعيش فيما بينها، في الأوطان الجديدة، لا زالت مشدودة بشتى القوميات، عن قصد أو مرغمة، إلى الأوطان التي خرجت منها. حتى لو رغبت تلك الفئات، في موطنها الجديد، أن تتآلف فيما بينها فإنّ المنابع التي خرجت منها تقف حائلاً دونها.
 تتحجّج الكنائس القديمة بأنّ إصلاح وضع الكنائس الجديدة بحاجة إلى مجمع مسكوني جديد. إلى أي حدّ هذا صحيح؟ لو كانت النيّة موفورة إلى إطلاق الكنائس الجديدة في الوحدة والسلام والاتفاق لتمّ ذلك بالحوارات المباشرة بين المعنيّين. ولا نظنّنا على خطأ إذا ما قلنا إنّ المشكلة هي مَن يسيطر على ماذا، ومَن تكون له امتيازات هنا وثمّة. فتِّش عن السلطة والمجد الباطل!
 في هذه الأثناء تستمر المعاناة على نحو مأساوي في شتى أنحاء المعمورة. لماذا تكون في المدينة الأميركية الواحدة خمس عشرة كنيسة أرثوذكسية، صغيرة وكبيرة، بعضها أو أكثرها، أحياناً، لا حاجة إليه، وسبعة أساقفة أرثوذكس من كنائس قومية مختلفة كل يعتبر نفسه أسقف المدينة؟ أمعقول هذا؟! في الكرسي الأورشليمي هناك بطريركان، واحد أُطيح به في شبه مجمع أرثوذكسي مسكوني ولا تزال إسرائيل تعترف به، وآخر انتخبه المجمع المحلي من سنتين واعترفت به الأردن والسلطة الفلسطينية. الأسباب القومية للنزاع واضحة. اليونان يهمّها أن يبقى الكرسي الأورشليمي يوناني الطابع. لذا كانت الحملة على البطريرك السابق. قبل شهر من اندلاع الأزمة أمر البطريرك السابق، كما قيل، بإنزال العلم اليوناني في الكنائس في غزّة واستبداله بالعلم الفلسطيني. اليوم، بعدما وعد البطريرك الجديد ثيوفيلوس العرب بإعطائهم حقوقهم أبدى تحفّظاً وتردّداً وعاد عن وعده لأنّه لم يشأ أن يعطي الرعيّة العربية حقّها خوفاً من طغيان العنصر العربي على العنصر اليوناني في الكنيسة. وما لبث ردّ الفعل العربي أن ظهر. فيوم السبت، الخامس من أيار الجاري، تنبّه الأردن إلى مماطلات البطريرك ثيوفيلوس فسحب اعترافه به. والكلام قيد التداول، حالياً، في شأن سحب السلطة الفلسطينية اعترافها به هي أيضاً لأنّ القضية تمسّ المصالح العربية.
 ماذا يمكن أن يحدث بعد ذلك؟ أبإزاء كنيسة نحن أم بإزاء صراع بين دول وقوميات؟! هل حلُّ المشكلة بحاجة إلى مجمع وقوانين، حقاً، أم بحاجة، أولاً، إلى استقامة فكر وقلب وإلى سلامة نيّة؟! الكنيسة، في مواجهة ما يجري، تتألّم. وما يؤلم أكثر أنّ الإحساس بالبديهيات الإيمانية وحقّ الكنيسة يتآكل. كأنّنا قَبِلنا القوميات الكنسية مبدأً بتنا مستعدين إلى تجيير كل ما لله والكتاب المقدّس والقوانين والمجامع المقدّسة لتمرير اتجاهاتنا ومرامينا في شأنه. أي فرق نلقى بين صراع اليهود والأمم قديماً، ذاك الذي حسمه بولس الرسول، وصراع الكنائس القومية اليوم؟! كأنّنا في تقدّم إلى الوراء! كأنّنا نتهوّد من جديد تحت ستار القوميات الراهنة. نريد الكنيسة أن "تتهلّن" أو أن "تستعرب" أو أن "تتروسن". خذ هذا المثل المعبّر: رغب أحد المهتدين في أميركا إلى الأرثوذكسية أن يعتمد في الكنيسة اليونانية فقيل له: "لا تستطيع!" قال: "لماذا؟" فقيل له لأنّك لست يونانياً!!! كلام الرسول المصطفى في غلاطية ينطبق علينا، اليوم، تماماً: "كيف ترجعون أيضاً إلى الأركان الضعيفة الفقيرة التي تريدون أن تُستَعبدوا لها من جديد... أخاف عليكم أن أكون قد تعبت فيكم عبثاً" (4: 9، 11)!
 لا شكّ أنّ لانعدام الحسّ باستقامة الرأي والكنائسانية القويمة اليوم دلالته. لا شكّ أنّ الزمن رديء والعثرة كبيرة. إنّه لا يسعنا إلاّ أن نرى فيما يجري، والحال هذه، حسّاً جامعاً في الكنيسة يموت. إلى أين يمكن أن يفضي بنا ذلك؟ الله أعلم! أنى يكن من أمر فإنّ الكلام إلى ملاك كنيسة أفسس يطالنا: "عندي عليك أنّك تركت محبّتك الأولى. فاذكر من أين سقطت وتُب واعمل الأعمال الأولى وإلاّ فإنّي آتيك عن قريب وأزحزح منارتك من مكانها إن لم تتب" (رؤ 2: 4 – 5). فلنحذر، إذاً، لأنّ الزمن زمن غربلة. "هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة" (لو 22: 31). نرجو، بإزاء هذه الغربلة، بإزاء ما يحدث من عثرات، ألا يفنى إيمان الضعفاء! ويل للذي تأتي العثرات بواسطته!!!


الأرشمندريت توما بيطار
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي – دوما
3حزيران 2007
عن holytrinityfamily.org