تجسد الكلمة - 7


الفصل الثامن عشر - التاسع عشر - العشرون 
الفصل الثامن عشر 
مقدمة 
أعمال المسيح بالجسد تظهر قوة كلمة الله وقدرته: بإخراجه الشياطين، وبالمعجزات، وبميلاده من العذراء. 
1ـ عندما يتحدّث الكتّاب الموحى إليهم عنه أنه يأكل ويشرب وأنه وُلِد، فإنهم يقصدون أن الجسد كجسد وُلِد واقتات بالطعام المناسب لطبيعته.
 أما الله الكلمة نفسه الذى كان متحدًا بالجسد، فإنه يضبط كل الأشياء. وكل أعماله التي عملها وهو في الجسد تظهر أنه لم يكن إنسانًا بل كان الله الكلمة [1].
وأما هذه الأمور فإنها تُذكَرعنه لأن الجسد الذي أكل ووُلِد وتألم لم يكن جسد أحد آخر، بل كان جسد الرب نفسه [2]. ولأنه صار إنسانًا كان من المناسب أن تقال عنه هذه الأمور كإنسان حتى يتبيّن أنه أخذ جسدًا حقيقيًا لا خياليًا [3]
2ـ وكما أنه بواسطة هذه الأمور عُرِفَ حضوره جسديًا كذلك بواسطة الأعمال التي عملها في الجسد أعلن نفسه أنه ابن الله.
 لهذا نراه ينادى اليهود غير المؤمنين قائلاً:
 " إن كنت لست أعمل أعمال أبي فلا تؤمنوا بي، ولكن إن كنت أعمل فإن لم تؤمنوا بي فآمنوا بالأعمال لكي تعرفوا وتؤمنوا أن الآب فيّ وأنا فيه[4]
3ـ وكما أنه ـ بينما هو غير منظور ـ يمكن أن يُعرَف من أعماله في الخليقة، هكذا أيضًا عندما تأنس. فبينما هو غير منظور (بلاهوته) إلاّ أنه يمكن أن يُعرَف من أعماله التى عملها في الجسد أن مَن يستطيع أن يعمل هذه الأعمال لا يمكن أن يكون إنسانًا بل هو قوة الله وكلمته [5]
4ـ فأمرُه للأرواح الشريرة (بالخروج) وخروجها في الحال لا يمكن أن يكون عمل إنسان بل عمل الله [6].
ومَنْ ذا الذي يراه وهو يشفي الأمراض التي يخضع لها الجنس البشري ويستمر في ظنه عنه أنه إنسان وليس إلهًا؟ فقد طهّر البرّص، وجعل العُرْج يمشون، والصُم يسمعون، والعُمي يبصرون، وبالإجمال طردَ من البشر كل مرضٍ وكل ضعف [7]
من هذه الأعمال كلها كان ممكنًا لأي إنسان بسيط أن يعرف ألوهيته.
 وأيضًا مَنْ ذا الذي يراه يَرُد للإنسان ما كان ينقصه منذ ولادته مثلما فتح عيني الأعمى منذ ولادته [8]، ولا يدرك أن طبيعة البشر خاضعة له، وأنه هو خالقها وصانعها؟ لأن مَنْ يَرُد للإنسان ما كان ينقصه منذ ولادته لابد أن يكون هو رب وسيد تكوين البشر [9]
5ـ ولهذا فإنه وهو نازل إلينا كوّن لنفسه جسدًا من عذراء لكي يقدّم للجميع دليلاً قويًا على ألوهيته حيث إن الذي صوّر هذا الجسد هو صانع جميع الأشياء . لأن مَنْ ذا الذي يرى جسدًا يأتي من عذراء وحدها بدون رجل ولا يدرك أن مَنْ ظهر في هذا الجسد لابد أن يكون هو صانع ورب باقي الأجساد أيضًا؟ [10]
6ـ أو مَنْ ذا الذي يرى تغيير طبيعة المياه وتحولها [11] إلى خمر ولا يدرك أن مَنْ فعل هذا هو سيد طبيعة هذه المياه وخالقها؟ ولأجل هذا دخل إلى البحر كسيّد له ومشى عليه كما على أرض يابسة لكى يقدّم لكل مَنْ يراه برهانًا على سلطانه على كل الأشياء. 
وعندما أشبع جمعًا غفيرًا من طعام قليل، وقدّم لهم الكثير من لا شئ، فأطعم خمسة آلاف نفس من خمسة أرغفة وشبعوا وفضل عنهم الكثير، ألم يُظِهر ذاته أنه لم يكن آخر سوى الرب نفسه المعتني بالجميع؟ 
الفصل التاسع عشر 
مقدمة
وإذ لم يقتنع الإنسان بطبيعته، فإنه كان يجب أن يتعلّم معرفة الله من أعمال المسيح في الجسد حيث اعترفت كل الطبيعة بلاهوته، خصوصًا عند موته. 
1 ـ لقد رأى المخلّص أنه حسن أن يفعل كل هذا، حتى بعدما عجز البشر أن يدركوه في عنايته بالكون ولم يفهموا أنه الإله من خلال أعماله في الخليقة فإنهم على الأقل يستطيعون ـ بمشاهدتهم أعماله في الجسد ـ أن يستردوا بصيرتهم ويعرفوا الآب عن طريقه. ومن عنايته بأبسط الأمور يتبيّنوا بالقياس عنايته بكل الأشياء كما سبق القول [12]
2 ـ فمَنْ ذا الذي يرى سلطانه على الأرواح النجسة، أو مَنْ ذا الذي يرى الأرواح النجسة تعترف بأنه هو سيدها [13]، ويساوره الشك بعد ذلك في أنه هو ابن الله وحكمته وقوته [14] ؟ 
3 ـ لأنه جعل حتى الخليقة نفسها تخرج عن صمتها، فالأمر العجيب أنه في موته، أو بالحرى في انتصاره على الموت وهو على الصليب، اعترفت كل الخليقة أن مَنْ ظهر وتألم في الجسد لم يكن مجرّد إنسان بل ابن الله ومخلّص الجميع.
 فالشمس توارت، والأرض تزلزلت، والجبال تشققت [15]، وارتعب كل البشر. جميع هذه الأمور أوضحت أن المسيح الذي على الصليب هو الله، وأن الخليقة كلها خاضعة كعبد له، وأنها شهدت برعبها لحضور سيدها [16]. وهكذا أظهر الله الكلمة نفسه للبشر بأعماله . 
4 ـ على أنه لابد بعد ذلك أن نروي ونتحدّث عن الهدف الذي من أجله جاء وعاش فيما بيننا بالجسد، وعن كيفية موت جسده، حيث إن هذا الأمر هو أساس إيماننا، وهو يشغل أذهان جميع الناس [17] حتى تعرف ويتضّح لك يقينًا، بواسطة ما نقدمه، أن المسيح هو الله وابن الله. 
الفصل العشرون 
مقدمة
إذن فلن يستطيع أحد أن يهب عدم الفساد إلاّ الخالق، ولن يستطيع أحد أن يعيد مماثلة صورة الله إلاّ صورة الآب، ولن يستطيع أحد أن يحيي إلاّ رب الحياة، ولن يستطيع أحد أن يعرّف الآب للبشر إلاّ الكلمة. وهو ـ لكى يفى الدين الذى علينا وهو الموت ـ لابد أن يموت عنا أيضًا ويقوم ثانية كباكورة لنا من بين الأموات. إذن كان يجب أن يكون جسده قابلاً للموت، وأن يصير غير فاسد باتحاده بالكلمة. 
1ـ لقد تحدّثنا إذن، وباختصار على قدر المستطاع وبقدر ما أمكننا فهمه، عن سبب ظهوره فى الجسد [18]، وأنه لم يكن ممكنًا أن يحوّل الفاسد إلى عدم الفساد إلا المخلّص نفسه، الذى خَلَقَ منذ البدء كل شئ من العدم. ولم يكن ممكنًا أن يعيد خَلقْ البشر ليكونوا على صورة الله إلاّ الذى هو صورة الآب [19]. ولم يكن ممكنًا أن يجعل الإنسان المائت غير مائت إلاّ ربنا يسوع المسيح الذى هو الحياة ذاتها [20]
ولم يكن ممكنًا أن يُعلّم البشرعن الآب [21] ويقضى على عبادة الأوثان إلاّ الكلمة الذى يضبط كل الأشياء، وهو وحده الابن الوحيد الحقيقي. 
2 ـ ولما كان من الواجب وفاء الدين المستحق على الجميع، إذ ـ كما بيّنا سابقًا [22] ـ كان الجميع مستحقين الموت، فلأجل هذا الغرض جاء المسيح بيننا.
وبعدما قدّم براهين كثيرة على ألوهيته بواسطة أعماله فى الجسد [23] فإنه قدّم ذبيحته عن الجميع، فأسلم هيكله للموت عوضًا عن الجميع [24]،
 أولاً: لكى يبرّرهم ويحرّرهم من المعصية الأولى [25]،
 وثانيًا: لكي يثبت أنه أقوى من الموت، مظهرًا جسده الخاص أنه عديم الفساد، وأنه باكورة لقيامة الجميع [26]
3 ـ ولا تتساءل إن كنا نكرر ما نقوله عند الحديث عن نفس الموضوعات [27]، فطالما نحن نتحدّث عن مشورة الله الصالحة من جهتنا [28] فيجب علينا أن نشرح المعنى الواحد بطرق عديدة، حتى لا يبدو كأننا تركنا أى شئ بدون تفسير، فنُتهم بالتقصير أو بالعجز في معالجتنا لأمور هامة كهذه.
لأنه من الأفضل لنا أن نُتهم ونُنتقد بسبب التكرار من أن نترك أى شئ كان يجب أن نعرضه بوضوح. 
4 ـ فالجسد (جسد الكلمة) لكونه من طبيعة البشر ذاتها لأنه كان جسدًا بشريًا ـ حتى إن كان قد أُخذ من عذراء فقط بمعجزة فريدة [29] ـ لكن لأنه كان قابلاً للموت [30] لذلك كان لابد أن يموت كسائر البشر نظرائه [31]. غير أنه بفضل اتحاده بالكلمة فإنه لم يعد خاضعًا للفساد الذى بحسب طبيعته، بل بسبب كلمة الله الذى حلّ فيه فإن الفساد لم يلحق به [32]
5 ـ وهكذا تمّ ( فى جسد المسيح ) فعلان متناقضان فى نفس الوقت:
 الأول هو: أن موت الجميع قد تمّ فى جسد الرب (على الصليب) 
والثانى: هو أن الموت والفساد قد أبيدا من الجسد بفضل اتحاد الكلمة به.
فلقد كان الموت حتميًا، وكان لابد أن يتم الموت نيابة عن الجميع لكى يوفى الدين المستحق على الجميع [33]
6 ـ ولهذا ـ كما ذكرتُ سابقًا [34] ـ طالما أن الكلمة كان من غير الممكن أن يموت، إذ أنه غير مائت، فقد أخذ لنفسه جسدًا قابلاً للموت حتى يمكن أن يقدمه، كجسده الخاص نيابة عن الجميع، حتى إذا ما تألم عن الكل باتحاده بالجسد، فإنه "يبيد بالموت ذاك الذى له سلطان الموت أى إبليس ويعتق أولئك الذين خوفًا من الموت كانوا جميعًا كل حياتهم تحت العبودية[35]


 ترجمة عن الاصل اليونانى – المقدمات - التعليقات
للاستاذ الدكتور / جوزيف موريس فلتس
دكتوراة فى العلوم اللاهوتية 
باحث بالمركز الارثوذوكسى للدراسات الابائية 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر: القديس أثناسيوس الرسالة الرابعة إلى سرابيون عن الروح القدس. فصل 18. 
[2] هنا يرد القديس أثناسيوس على بعض الغنوسيين الذين فصلوا بين شخص المسيح وجسده. انظر ايريناؤس: ضد الهرطقات 3، 17: 6. 
[3] يرد القديس أثناسيوس هنا على تعاليم فالنتينوس وماركيون والمونارخيين، انظر أيضًا مقالته الثانية ضد الآريوسيين. فقرة 27 ".. ولكنه بالتأكيد اتخذ جسدًا حقيقيًا برغم ما يهذى به فالنتينوس " انظر أيضًا رسالته إلى ابكتيتوس. فصل 7. 
[4] يو 37:10ـ38. 
[5] انظر المقالة الثالثة ضد الآريوسيين. فقرة 31، الرسالة الرابعة إلى سرابيون عن الروح القدس. فصل 16. 
[6] انظر فصل 48. 
[7] انظر فصل 38. 
[8] انظر المقالة الثالثة ضد الآريوسيين. فقرة 40. 
[9] الرسالة الرابعة إلى سرابيون عن الروح القدس. فصل 21. 
[10] انظر فصل 8. 
[11] استخدم القديس أثناسيوس نفس مصدر فعل يحوّل
 "metab£lein" وذلك في الفصل 20 /1  ليصف التحوّل الذي تمّ في طبيعة الإنسان بواسطة الخالق والمخلّص أى التحوّل من حالة الفساد إلى حالة عدم الفساد. 
[12] يكرر القديس أثناسيوس ما سبق أن أوضحه في الفصول 12، 14، 15. 
[13] انظر فصول 32، 48. 
[14] انظر 1كو24:1. 
[15] انظر المقالة الثالثة ضد الآريوسيين. فقرة 56. 
[16] انظر ضد الوثنيين. فصل 37. 
[17] ما كان يتحدّث عنه الوثنيون بشأن المسيحيين، فى الواقع هو أن المسيحيين يؤمنون بشخص حُكم عليــه بمــوت الصليب على أنه هو الله، وهذا يظهـر مما جــاء فى كتـاب لوكيانُس
 (11) perˆ tºj peregrˆnou teleut»j والذى كتبه لجذب المسيحيين نحوه . 
[18] انظر بداية الفصلين الأول والرابع. 
[19] انظر فصل 13. 
[20] انظر الفصول 8ـ10 تعبير "الحياة ذاتها ..... في تعاليم القديس أثناسيوس يعنى أن الابن هو واحد مع الآب في الجوهر ولهذا فهو صورة الآب. وفي فصل 46 من مقالته ضد الوثنيين يوضح هذه العقيدة ويستخدم صفات أخرى ليصف بها الابن في علاقته الجوهرية بالآب وكل هذه الصفات تبدأ بمقطع "AÜto" الذي يعنى ذات فيقول ".. ولأنه المولود الصالح من الآب الصالح والابن الحقيقى فهو قوة الآب وحكمته وكلمته ليس عن طريق المشاركة ولا كأن هذه الصفات اكتسبها من الخارج كما هو الحال مع مَن يشتركون فيه ويصيرون حكماء به وينالون منه قوة وتعقلاً، بل أنه هو "حكمة (الآب) ذاتهاAÙtosofˆa، "كلمة (الآب) ذاته AÙtolÒgoj"، "قوة (الآب) ذاتها AÙtodÚnamij"، "نور (الآب) ذاته AÙtofèj"، "الحق ذاته AÙtoal»qeia"، "البر ذاته AÙtodikaiosÚnh"، "الفضيلة ذاتها ....      ». 
[21] انظر فصل 14. 
[22] انظر فصل 9. 
[23] انظر فصل 16. 
[24] انظر فصل 8 /4 ، 10/ 5. 
[25] انظر فصل 5. 
[26] انظر 1كو20:15. في الفقرتين1، 2 من هذا الفصل يلّخص القديس أثناسيوس تعليمه عن عقيدة الفداء.
[27] في كتاباته اللاهوتية، يفضّل القديس أثناسيوس تكرار المعنى الذي يريد توضيحه باستخدام طرق متعددة في شرحه، وهو ينبّه القارئ دائمًا إلى عملية التكرار هذه. انظر فصل 45/2. والمقالة الأولى ضد الآريوسيين. فقرة 29، 31، المقالة الثانية ضد الآريوسيين. فقرة 22، 80. 
[28] يقصد ما جاء في فصل 19 / 1 . 
[29] انظر فصل 35/ 7 . 
[30] لكنه كان جسدًا طاهرًا وخاليًا بالحق من زرع البشر فصل 8 / 3 . 
[31] انظر فصل 3/ 4 . 
[32] انظر فصل 9 / 2 . 
[33] يشدّد القديس أثناسيوس هنا على النصرة التي أتمها الكلمة المتجسّد على الموت وأيضًا يشدّد على الشفاء الجذرى للفساد. ولقد كان جسد الكلمة هو الأداة التي تمت بها هذه النصرة. وهنا يشدّد القديس أثناسيوس مرة أخرى على ما ورد في الفصلين 8، 9. 
[34] انظر الفصول 8ـ10. 
[35] عب 14:2 ، 15.