روح البنوّه

ها نحن نحتفل بعيد الخمسين وحلول الروح القدس وبالوقت الذي اكَتَمَلت فيه المواعيد وأيضًا بتحقيق ما كنَّا نرجوه.
فكم هو فائق هذا السرَّ وكم هو عظيم، وكم هو جدير بكل توقير! فلقد انتهي الحديث عن كل ما يخص جسد المسيح أو بالحري عن كل ما يتعلّق بمجيئه كإنسان، ليبتدئ الكلام عن الروح
فما هي تلك الأمور المتعلّقة بالمسيح؟
 هي العذراء والميلاد والمذود، الأقماط، والملائكة الذين كانوا يمجدَّونه، والرعاة الذين أسرعوا نحوه، والمجوس الذين سجدوا أمامه، والهدايا التي قُدّمت له، الأطفال الذين قتلهم هيردوس، ويسوع الذي هرب إلي أرض مصر ثم رجع منها بعد ذلك.
 يسوع الذي خُتن، وتّعمد وشهدت له السماء، وجُربّ. وُرجِمَ بحجارة من أجلنا نحن الذين كان ينبغي أن يعطينا مثالاً للتألّم من أجل الكلمة.   
يسوع الذي ُسلّمَ وصُلِبَ علي الصليب ودفن وقام وصعد. وكثيرًا ما يناله حتي الآن من قِبَلْ الذين يمقتونه، وهو يحتمل لأنه طويل الأناة، وأيضًا منِ قِبَلْ محبيَّه بسبب سخطهم الدائم.
 وكما يؤخّر الرجز عن أولئك كذلك يؤَّخر الصلاح عن الآخرين، فعن الأولين يمهلهم الوقت لعلهم يقدّمون توبة، وعن الآخرين كي يمتحن محبتهم، وهو يفعل هذا كي، يُعطِي فرصة للأولين للحزن علي ما يفعلون، وللآخرين للجهاد في حُسن العبادة، كما يتَحّدد من فوق بواسطة العناية الإلهية، وكما يتبّين من أحكامه التي يقود بها بكل حكمه ما يتعلّق بشؤننا. 
فهذه أذن هي الأمور التي تخص المسيح وسنبصرها بأكثر مجد فيما بعد لنشترك نحن أيضًا في تمجيده لأجلها. 
أما الأمور الخاصة بالروح القدس، فليحضَّرني الروح لأتحَّدث عنه، وليهبني أن أتكلّم بخصوصه، بمقدار ما أشتهي، وإلاّ فليهبني علي الأقل ما هو مناسب لهذا الحدث. 
وعلي كل حال هو سيحضر كسَّيد وربَّ وليس كعبد ودون أن ينتظر أمرًا من غيره كما يظن البعض،" اَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ، وَتَسْمَعُ صَوْتَهَا، لكِنَّكَ لاَ تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَأْتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ. هكَذَا كُلُّ مَنْ وُلِدَ مِنَ الرُّوحِ".[1] وعلي مَنْ يشاء، ومتي شاء، وبالقدر الذي يختاره هو، وهكذا يلهمنا كي نعتقد ونتكلَّم في الروح
أما الذين ينزلون بالروح القدس إلي مرتبه المخلوقات [2]، فهم شتاّمون وعبيد أشرار، بل وأشرَّ من كل الأشرار لأن العبيد الأشرار هم مّنْ ينكرون سلطة الربَّ، ويتمردون عليه جاعلين مَنْ هم أحرار عبيدًا مثلهم.
أما مَنْ يؤمنون أن الروح هو الله فهم مملوئين بالله إذ أن أذهانهم مستنيرة.
ومَنْ يدعونه أنه هو الله، فإن فعلوا هذا أمام أناس عقلاء، فهم يتصفَّون بالاستنارة أما إن فعلوا هذا أمام ضعفاء العقول فهم يتصفون بعدم الفهم، وكأنهم يأتمنون أن يضعوا اللؤلؤة في الطين أو أن يسمع الأصم صوت الرعد أو أن يتطلَّع ضعيف النظر في الشمس، ومَنْ مازالوا يشربون اللبن علي الأكل الدسم، لأنه من الواجب أن يقود المرء مثل هؤلاء خطوة خطوة للأمام وأن يصعدهم رويدًا رويدًا إلي العلاء، منيرًا لهم الطريق بضوء قوي، ومهيَّئًا لهم الحق بالصدق.
 ولهذا السبب فإذ نترك نحن أيضًا الآن الكلام الأكمل (لأنه لم تأت ساعته بعد) فلنتكلم مع هؤلاء بمثل هذه الطريقة ونقول لهم:
 إن كنتم يا مَنْ تؤمنون بهذه الأمور لا تقبلون الروح ولا حتى بكونه مخلوقًا ولا حتى بكونه غير زمني، فهذا كما هو واضح فعل الروح النجس (المعاند). لأنكم (وكما اعتقد) ستسمحون لغيرتي أن تتجاوز في الحديث قليلاً، أما إن أظهرتم ـ علي الأقل ـ مقدارًا من التعقل حتى تحيدوا عن عدم التقوي الواضح هذا، وتمسَّكتم بما يجعلنا أحرارًا من العبودية، فحينئذ افحصوا بالروح معنا ما يلي: 
لأني أعتقد أنكم أنتم أيضًا شركاء الروح القدس، وسأفحص معكم هذه الأمور معتبرًا أياَّكم من الأخصاء فالروح القدس هو كائن في كل حين، ولم تكن له بداية ولن يكف علي أن يكون، هو دائمًا مع الآب والإبن، لأنه لا يليق أن يكون الآب بدون الإبن، أو الإبن بدون الروح.
لأنه لو حدث هذا لكانت الإلوهه وكأنها قد فقدت مجد عظمتها، ولكانت وكأنها قد تدرَّجت من وضع إلي وضع حتى وصلت إلي الكمال.
فالروح القدس هو دائمًا مَنْ يُعطِيِ ولا يأخُذ، مَنْ يُتمِم ولا يُتَمَم، ومَن يُكمِّل ولا يُكَّملَ، ومَنْ يُقدِّس ولا يُقدَّس، يؤِلِّه ولا يُؤلَّه هو واحد في ذاته وواحد في الذين يعمل فيهم. غير مرئي، لا يحتويه زمان ولا يسعه مكان غير المستحيل [3]، لا كمية له ولا كيفّية ولا صورة له، غير الملموس، ذاتي الحركة ودائم الحركة، المستقل في فعله، الذاتي في قوته والكلّي في قدرته (حتى وإن كان كل ما يفعله الروح أو الإبن الوحيد، منسوب للعله الأولي)[4].
وهو الحياة ومعطي الصلاح (الخيرات)، هو روح الإستقامة، والمرشد، والقائد والمُرسَّل، روح التميَّيز، صانع الهياكل لذاته، روح الإرشاد الفاعل بسلُطة [5]، موزَّع المواهب، روح البنوّه والحق والحكمة والفهم والمعرفة والتقوي والرأي، والقوَّة والمخافة، وهو روح كل تلك الأشياء التي سبق التنبؤ بها [6]
والذي به نعرف الآب ونُمجّد الإبن. وبالآب والإبن والروح القدس نحن نعترف بإيمان واحد وعبادة وسجود وتقديس وكمال واحد. 
وليس هناك ما يدعوني كي أطيل الكلام فكل ما للآب هو للإبن ما عدا أن الآب غير مولود (أما الإبن فهو مولود). وكل ما للإبن هو للروح القدس عدا كون أن الإبن هو مولود (والروح منبثق). وهذا كله لا يُقسّم الجوهر الواحد حسب ما أقول، بل هو تمايز (للأقانيم) في الجوهر الواحد. 
إكرم يوم الروح [7] وأمسك لسانك عن الكلام قليلاً لو كان هذا ممكنًا. فالحديث اليوم هو عن ألسِنة أخري إما أن تقدرها أو تخاف منها وأيضًا تراها وقد نزلت مع النار [8] .
لقد عمل الروح القدس في الآباء والأنبياء فمنهم مَنْ قد تخيَّل الله وعرفه، ومنهم مَنْ كان قادرًا علي التنبؤ بما سيحدث، إذ كان الروح القدس مطبوعًا في عقلهم فكانوا يعيشون المستقبل وكأنه حاضر. لأن هذه هي قدرات الروح. ثم بعد ذلك عمل الروح القدس في تلاميذ المسيح. ودعني أقول إنه كان مع المسيح، ليس كفاعل فيه لكن كمساوٍ له في الكرامة والمرافق له في كل ما فَعَلَ. 
ولقد كان عمل الروح القدس في التلاميذ بثلاث وجوه بمقدار ما كان في طاقتهم أن يسعوه في أوقات ثلاثة: منها قبل أن يتمجَّد المسيح بالآلام ـ وبعد تمجيده بالقيامة ـ وبعد صعوده إلي السموات، أو كما يُقال عند استعادته لكل شيء إلي الصواب. 
ولقد اتضَّح هذا في أول معجزة شفاء وفي طرد الأرواح النجسة، والتي لم تكن تحدث إلاَّ بعمل الروح القدس. 
وأيضًا، نفخة الروح القدس بعد تمام التدبير، والتي كان من الواضح أن فيها عمل إلهي قوي، وما نحتفل به اليوم من نزول ألسنة النار المنقسمة علي كل واحد من التلاميذ. 
إلاَّ أنه في الحالة الأولي كان حقيقيًا والثاني كان اكثر وضوحًا، أما اليوم فهو بشكل أتَّم من كل مرَّه، وهذا ليس لأنه حاضر بفعله، كما كان من قبل لكن ـ كما يمكن أن يقال ـ
إنه حاضر حسب جوهره معنا لكي يعضَّدنا. ولأن الإبن كان لابد أن يخاطبنا جسديًا لذا فقد ظَهَرَ في الجسد. ولما صعد المسيح، حلَّ الروح علينا، ومع إنه أتي كرَّب إلاَّ أنه أُرسِلَ ليس كبديل لله. لأن هذه الأسماء توضّح بالأكثر الوحدة وليس التقسيم في الطبيعة. 
لأجل هذا جاء الروح بعد أن صعد المسيح كي لا نفتقد لمعزي. 
ولقد قال المسيح إنه سُيرسِل "معزَّيًا آخرً" كي تتذكر أنت أن الروح هو مساوٍ في الكرامة للمسيح. لأن كلمة "آخر" معناها أنه "آخر" مساوٍ لي (أي للمسيح). لأني أعرف إن كلمة "آخر" تقال ليس عن مَنْ هو غريب ومختلف، لكن عن مَنْ له الجوهر نفسه. 
ولقد حلَّ الروح علي هيئة ألسنة، لتشَابُه عمله بعمل الكلمة ونتساءل لماذا كانت هذه الألسنة تشبه النار [9].
ونقول كي يطِهّر. لأننا نعرف خاصيَّة النار في التطهير أو بسبب (خاصية) جوهر الروح، لأن إلهنا نار ونار آكله لكل الشرور. 
ونقول عن الروح إنه إله حتى لو كان هذا الكلام مزعجًا للبعض بسبب القول إن الروح واحد في الجوهر (مع الآب والإبن). 
وأما إن الألسنة كانت منقسمة فذلك كان لأختلاف المواهب، وكونها كانت مستقرة فذلك بسبب مصدرها الملوكي، وأنها لابد أن تستريح فوق رؤوس القديسين مثلما يستقر الله في عرشه الذي يحمله الشاروبيم [10].
 أما سبب حدوث ذلك في العلَّية [11] (إن لم أكن متجاوزًا في الكلام)، فبسبب السمو الروحي لمِنَ كانوا سيقبلوه وعلّوهم عن الأرضيين، لأن بعض العلالي مبنيّه علي مياه إلهية فيها يُسَّبح الله [12].
كما أن المسيح نفسه في علّية قد أسس السر، مع هؤلاء الذين كانوا مزمعيين أن يخدموا الأمور الفائقة. 
(وقد كان حلوله بهذا الشكل) كي يثبت أنه ينبغي أن يأتي الرَّب إلينا، كما حدث في القديم مع موسي [13]، كما نعرف، هذا من ناحية ومن ناحية أخري كي نرتقي نحن وهكذا تتم الشركة بين الله والإنسان بإمتزاج الرتبة (أي يصبح أبن الله إبنًا للإنسان كي يصير إبن الإنسان إبنًا لله). 
لأنه طالما ظلَّ كل منهما فيما يخصه، أحدهما في رفعته والآخر في مذلتّه، فلا مجال للاشتراك في الصلاح ولا تفعيل لمحبة البشر، بل ستكون هناك هوَّه سحيقة بين الطرفين لا سبيل لعبورها، والتي لم تمنع فقط الغني من أن يقترب من لعازر ومن أحضان إبراهيم [14]، بل وأيضًا تلك الطبيعة المخلوقة والفاسدة من أن تقترب من الطبيعة غير المخلوقة وغير الفاسدة. 
وهذا هو الروح الذي نادي به الأنبياء كما قيل: " روح الرب علّي لأن الرب مسحني لأبشرّ المساكينً وأيضًا " وَيَحُلُّ عَلَيْهِ رُوحُ الرَّبِّ، رُوحُ الْحِكْمَةِ وَالْفَهْمِ، رُوحُ الْمَشُورَةِ وَالْقُوَّةِ، رُوحُ الْمَعْرِفَةِ وَمَخَافَةِ الرَّبِّ[15]، "ونزل روح الرب وقادهم[16].
كما أن الروح أرشد بصلئيل لبناء الخيمة [17]. كما أنه هو الروح الذي حزن [18]، والروح هو الذي أصَعَدَ إيليا مع مركبته وهو الذي طلب منه إليشع نصيبين [19]. وهو روح الصلاح والمشورة الذي اعتمد عليه داود وقاد طريقه [20].
 ولقد سبق الروح فوعد قديمًا علي لسان يوئيل قائلاً " وَيَكُونُ بَعْدَ ذلِكَ أَنِّي أَسْكُبُ رُوحِي عَلَى كُلِّ بَشَرٍ، فَيَتَنَبَّأُ بَنُوكُمْ وَبَنَاتُكُمْ، وَيَحْلَمُ شُيُوخُكُمْ أَحْلاَمًا، وَيَرَى شَبَابُكُمْ رُؤًى[21]... إلي آخر النبوة،
 ثم بعد ذلك ما قاله المسيح عن الروح " ذَاكَ يُمَجِّدُنِي، لأَنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ[22]. مثلما يحدث أيضًا مع الآب والإبن اللذين يُمجد كلاهما الآخر [23]
ولأن الوعد (بالمعزي) هو بفيض لذا فسوف يستمر وسيبقي إلي الأبد [24]. سواء الآن مع أولئك الذين يحيون في قداسة، أو بعد ذلك مع مَنْ سيستحقون الحياة الأبدية، وذلك إن نحن تمسّكنا به ليس فقط في كل سيرتنا، بل وأيضًا أن لم نطرحه بعيدًا بكثرة خطايانا. 
والروح القدس هو شريك مع الإبن في الخلق والقيامة، كما هو مكتوب " بِكَلِمَةِ الرَّبِّ صُنِعَتِ السَّمَاوَاتُ، وَبِنَسَمَةِ فِيهِ كُلُّ جُنُودِهَا[25] وأيضًا يقول أيوب: " رُوحُ اللهِ صَنَعَنِي وَنَسَمَةُ الْقَدِيرِ أَحْيَتْنِي[26] وفي موضع آخر يقول " تُرْسِلُ رُوحَكَ فَتُخْلَقُ، وَتُجَدِّدُ وَجْهَ الأَرْضِ[27]
والروح القدس هو الذي يحقق الميلاد الثاني، وذلك لأنه لا يمكن أن يري أحد ملكوت السموات، أي أن يصل إليه إن لم يكن قد وُلدَ من فوق بالروح[28]، وإن لم يكن قد تطهرّ من بقايا الميلاد الجسدي الذي هو من أسرار الليل [29]، بأن يقتني كل منَّا نور النهار الساطع. 
والروح القدس كليّ الحكمة ومحب للبشر جدًا، فإن تعهد راعيًا فإنه يجعله منشدًا للمزامير وطاردًا للأرواح النجسة بل ويقيمه ملكًا لإسرائيل [30]. وإن أخذ راعيًا للغنم وجامعًا لثمر التوت، فإنه يجعله نبيًا، مثلما فعل في داود [31] وعاموس [32]،
 وإن تعَّهد غلامًا ذكيَّاً فإنه يجعله أكثر حكمة من الشيوخ بالرغم من حداثة سنه، كما حدث مع دانيال [33] الذي انتصر وهو في جب للأسود. وإن وَجَدَ الروح صيادين، فإنه يصطادهم لحساب المسيح جاعلاً إياهم صيادين للعالم كله بقوة الكلمة. وكمثال علي ذلك ما فعله في بطرس واندراوس [34] وابني الرعد [35] الذين كرزا كالرعد، بالروحيات.
 وعندما يجد الروح عشارين فإنه يصنع منهم تلاميذًا له ويجعلهم تجارًا للنفوس مثل متيَّ الذي كان بالأمس جابيًا للأموال وصار اليوم بشيرًا [36] وإن تعهَّد مضطهدين متحمسين حولّهم إلي "بولس" بدلاً من "شاول"، واهبًا إياهم حياة تقوي بقدر ما كانوا يرتكبون من خطايا [37]
هذا هو الروح كلَّي الوداعة، والمحتد علي الخطاة فياليتنا نتمتع بوادعته ونتجنَّب حدّته معترفين بمكانته، هاربين من التجديف عليه. فلا نُؤثر أن نراه محتدًا لدرجة عدم الغفران [38]
لقد تكلّم (الرسل) بألسنة مختلفة [39] عن ألسنة آبائهم، والمعجزة عظيمة إذ أنهم تكلّموا بلغة لم يتعلّموها، والآية هنا لغير المؤمنين وليست للمؤمنين، وما حدث فيه إدانة لغير المؤمنين كما هو مكتوب: " إِنِّي بِذَوِي أَلْسِنَةٍ أُخْرَى وَبِشِفَاهٍ أُخْرَى سَأُكَلِّمُ هذَا الشَّعْبَ، وَلاَ هكَذَا يَسْمَعُونَ لِي، يَقُولُ الرَّبُّ[40]
يقول الكتاب " فَلَمَّا صَارَ هذَا الصَّوْتُ، اجْتَمَعَ الْجُمْهُورُ وَتَحَيَّرُوا، لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ كَانَ يَسْمَعُهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِلُغَتِهِ[41]. إذن توقف قليلاً هنا ولنسأل كيف يمكن أن نفهم المكتوب لأنه يوجد في هذه الجملة ما يميَّزها. فهل كل واحد كان يسمع كلامًا بلغته، حيث يمكننا القول بإنه مع أن الرسل كانوا يتكلّمون لغة واحدة إلاّ أن ما حمله الهواء، ووصل إلي إسماع الجمهور كان عدة لغات، ولكي أوضَّح أكثر أقول إن اللغة الواحدة صارت عدة لغات أو أن نقول إن الرسل قد تكلّموا بعدة لغات غريبة بالنسبة لهم، وقد سمعها الحاضرون وفهمها كل واحد منهم بحسب لغته
لأن المعجزة ـ في حالة الأحتمال الأول ـ تكون قد حدثت بالحري مع السامعين من الجمهور وليس مع الرسل الذين تكلّموا بلغة واحدة. أما حسب ما نقول فإن المعجزة تكون قد حدثت مع المتكلّمين والذين قد أتُهِموا كذبًا بأنهم سكاري [42]، وهم الذين قد تكلّموا بإبهار بلغات عدة، بوحي من الروح. 
لقد كانت بلبلة الألسنة في القديم (عندما اتفق البشر علي الخطيَّة ومعاندة الله ـ الأمر الذي يفعله الكثيرون حتى اليوم ـ وقرروا بناء برج بابل[43]، أمرًا جديرًا بالتقدير لأنه هكذا تبددت أهدافهم وتوقف العمل. أما ما هو أكثر جدارة بالتقدير فهو الأمر الذي يحدث الآن وبطريقة معجزَّية.
إذا أن الروح القدس الذي حلَّ علي الكثيرين، قد جعلهم يعملون في تناسق، وصار الفرق في المواهب محتاجًا إلي موهبة أخري في تميّيز الأفضل، وإلاّ فكلها لن تخلو من شيء ممدوح. كما أنه يمكننا أن نصف الإنقسام في الألسنة الذي يتحدَّث عنه داود، أنه مفيد، إذ يقول " أَهْلِكْ يَا رَبُّ، فَرِّقْ أَلْسِنَتَهُمْ، لأَنِّي قَدْ رَأَيْتُ ظُلْمًا وَخِصَامًا فِي الْمَدِينَةِ[44]، 
ولماذا؟ لأنهم أحبوا الكلام المهلك واللسان الغاش [45]. ولو كان المرَّنم معنا اليوم لا شتكي علينا علي الألسنة التي بيننا والتي تقسَّم الجوهر الإلهي [46]، وهنا لن أزيد في الكلام. 
ولأن هذه الألسنة كانت تخاطب اليهود الأتقياء القاطنين في اورشليم وفي بلاد الفرس وأهل خراسان ومن مصر وليبيا وكريت ومن بلاد العرب ومن بلاد ما بين النهرين وأهل عشيرتي من بلاد الكبادوك، وإلي كل اليهود من كل أمة تحت السماء، والذين اجتمعوا هناك، فإنه من الواجب أن ننظر مَنْ كان هؤلاء، ومن أي شعوب اليهود المسبَّية قد أتوا.
 لأن السبي في مصر وبابل كان محدودًا ثم توقف بعودة اليهود من هناك، بينما أسَرِهْم وتشتتهم من قبِل الرومان لم يكن قد حدث بعد، فقد كان وشيكًا أن يحدث كعقاب لهم علي جسارتهم وأصرارهم علي صلب المسيح، وينبغي أن نذكر أيضًا السبي الذي حدث أيام انطيوخس [47]، والذي حدث ليس قبل تلك الأيام بكثير [48]
إذن كان من الطبيعي أن يوجد في تلك الأيام بعض من هؤلاء الذين تشتتوا في أمم كثيرة، كي يشاركوا في هذه المعجزة.
ولقد بحث محبو المعرفة في هذا الأمور من قبل وربما بدون أي حب إستطلاع، غير أنه من المؤكد أن المرء يستطيع أن يضيف شيئًا آخر بخصوص هذا اليوم، وقد اعده خصيصًا لنا. غير أننا لابد أن ننهي إجتماعتنا الآن، (لأن الحديث قد طال). 
أما احتفالنا فلا يجب أن ينتهي بالمرَّة. فإن كان يجب أن نحتفل الآن ونحن في الجسد إلاَّ أنه بعد قليل سنحتفل ونحن في الروح، وحينئذ أيضًا سنعرف بأكثر وضوحًا وبطريقة جليّة أقوال الرسل بواسطة الله الكلمة، ربنا يسوع المسيح، الذي هو العيد الحقيقي والفرح لكّل المخلّصين، والذي له ومع الآب والروح القدس المجد والكرامة الآن وإلي دهر الدهور إمين. 

القديس غريغوريوس النزينزي
 العظة ال 41عن عيد حلول الروح القدس في يوم الخمسين 
ترجمة عن اليونانية 
دكتور/ جوزيف موريس فلتس 
مراجعة 
دكتور / نصحي عبد الشهيد
عن كتاب روح البنوة 
اصدار المركز الارثوذوكسى للدراسات الابائية بالقاهرة ابريل 2011
------------------------------------------------------
[1] يو8:3. 
[2] يقصد الهراطقة الذين كانوا ينكرون الوهية الروح القدس حاسبين أياه ضمن المخلوقات.
[3] أي أن طبيعة لا تتغير أو تستحيل إلي طبيعة أخري. 
[4] يقصد الله الآب. 
[5] يرد هذا التعبير عن الروح القدس في صلاة استدعاء الروح القدس بالقداس الكيرلسي، وهو يوضح الوهيه الروح القدس وفعله الإلهي فينا. 
[6] أنظر إشعياء 9ـ10. 
[7] أي إكرم يوم الخمسين. 
[8] أنظر أع3:2 وما بعدها. 
[9] أعمال3:2 ...إلخ. 
[10] إش16:37. 
[11] أع 2:2. 
[12] انظر مز3:104. 
[13] في العليقة. أنظر خر2:3. 
[14] لو26:6. 
[15] إش2:11. 
[16] انظر إش14:63. 
[17] خر 30:35 وما بعدها. 
[18] إش 10:63. 
[19] 2 مل9:2. 
[20] انظر مز10:51. 
[21] يوئيل28:2. 
[22] يوحنا 14:16. 
[23] يوحنا54:8. 
[24] يوحنا 16:14ـ17. 
[25] مز 6:33 يري آباء الكنيسة أن نسمه فيه هي تعبير عن الروح القدس. 
[26] أيوب 4:33. 
[27] مز 30:104. 
[28] يو 5:3. 
[29] يشير ق. غريغوريوس بهذا إلي مقابلة نيقوديموس للمسيح ليلاً وحديثه عن الميلاد الجسدي (أنظر يو1:3 ـ6). 
[30] 1ملوك 12:16. 
[31] 1صم11:16ـ13. 
[32] عاموس 1:1. 
[33] دانيال 19:2ـ23. 
[34] مت 18:4. 
[35] مر 17:3. 
[36] متي 9:9. 
[37] أع 3:8. 
[38] مت31:12. 
[39] أع 4:2. 
[40] 1كو 21:14، إش 11:28، تثنية 49:28. 
[41] أع 6:2. 
[42] أع 15:2. 
[43] تك 1:11ـ9. 
[44] مز 9:55. 
[45] مز 3:52. 
[46] ربما يقصد ألسنة الهراطقة التي كانت تنطق بالتعاليم الخاطئة بخصوص أقانيم الثالوث القدوس وأنها ليست واحدة في الجوهر، سواء كانت تعاليم الأريوسين الذين انكروا ألوهيه الإبن أو محاربي الروح الذين أنكروا ألوهيه الروح القدس. 
[47] أنظر مكابين 1، 2. 
[48] يقصد وقت حلول الروح القدس بعد صعود المسيح.