الصبر

مقالة للمطران جورج خضرعن الصبر فى الاوقات الصعبة 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كثير يزين له ان الصبر استسلام للقدر، للظرف الخائق، لوضع محتوم عليك في بيتك او عملك او بلدك او اية جماعة تنتمي اليها.
فتبقى كما انت او حيثما حللت خوفا من ان يخضك التغيير، ذلك ان الجديد مخيف اذ عليك ان تختار امامه وان تألف ما لم تكن معه على ايلاف وقد يكون في هذا تخلق جديد وانت معشش في العتيق، راض بما تقول انه كتب عليك اذ تنيب الله ان يفكر عنك وان يحل لك مشاكلك بلا إسهام منك.
ما من شك في ان الجبرية هي فلسفة الحياة عندنا. ربما البدوي الكامن فينا كان يرى ان ما فوقه اي الشمس هي دائما في محلها وان الصحراء التي تحت قدميه في محلها ايضا. اول استسلام هو للطبيعة ما في ذلك ريب.
وليس دون ذلك ايلاما كل اندراجك في الدولة لان كل دولة تطغى وترى انت ذلك يوما بعد يوم وكأنك مسجل لتاريخ لا يتغير وتستكين الى ان «الظلم في السوية عدل في الرعية» وكأن طبائع الاستبداد عميمة في كل شعوب الارض وما سمي الهدر عميم وتختلف البلدان بأن في بعض قضاة منزهين وفي بعض قضاة يسودهم الاقوياء.
واما انت هنا فمن العالم الثالث حيث لا يرى احد في الدولة امكان قوة وترجيح العدل. فحالك ليست افضل من حال جدك البدوي القديم اذ الارض تحت قدميك تميد وعلى هذا هي لا تتغير.
ثم تأتيك تعقيدات شخصيتك وسقطاتك وتلحظ ان ما تفعله اليوم كنت تفعله منذ ازمنة سحيقة وتعرف ان ما في نفسك غير ما يبدو وان فيها نتانة كثيرة وانك غالبا لا تميل الى التوبة عنها لان الاغتسال الحقيقي يكلفك جهدا كبيرا وموصولا وتعرف ان هذا متعب.
ولعلك تكون قد قرأت شيئا عن التحليل النفسي ونفقاته كثيرة ثم قرأت في الآونة الاخيرة عن حملة رهيبة في الغرب على التحليل النفسي وتريد الشفاء وليس عند الاطباء شفاء.
امام كل هذه قد تنهزم وقد تستطيب الانهزام وتستكين الى الغلط والغلط في هذا انك تدور حول نفسك ولا تريد الخروج من الدائرة وتتعب وتكتئب ولا تخشى ان تحمل كل هذا الى الموت والموت عندك آخر محطة من محطات اليأس. واذا كنت على هذه الاحاسيس فما من شك في انك مؤمن صغير وانك لا تعرف بعد صبر الابرار وظننت نفسك عليه.
والصابر لا يختلف عنك في انه مقيم بدءا في الاحزان ولكنه ليس مقيما فيها الى الابد.
ويخطئ كما انت تخطئ ولكنه يعرف نفسه كذلك ولكنه يعرف ايضا ان الارض لا تميد تحت قدميه لانه ثابت في الله بمعنى انه مقيم فيه.
فالله ليس عنده بيوت هنا. انه هو البيت. والصابر مجروح كما انت مجروح ولكنه يؤمن بان له من يضمد جروحه وهو الرب. وحتى يأتي الرب بتعزياته ينتظره باليقظة وقد ينتظره كثيرا، وفي الاخير يأتي.
ليس الزمان يعينه فالزمان لا يحمل مضمونا. انه يتعب حتى الضجر الكثير. 
كل منا يعيش في الوقت ولكن المؤمن يسود الوقت بما يعلوه اي بأبدية الرب. لذلك يقول الكتاب: «صبرا صبرت للرب».
الصابر يرجو الرب القادم اليه بسبب من وعده وبسبب من رحمته.
من هنا ان هذا الانسان ليس اسير شيء لانه مولود من فوق، على ما قال يوحنا الحبيب.
المؤمن يعرف انه لا يلد نفسه ولا تلده جهوده ولو كان عليه ان يبذلها طاعة. 
هذا كان فضل اوغسطينس علينا انه كشف باصرار وحرب عقلية ضروس اهمية النعمة بادئة للخلاص.
ولعل الفرق العميق بين اهل الايمان واهل هذا الدهر ان اهل الايمان عارفون بانهم يجيئون من الله ولا يجيئون من الارض ولو كانت ام اجسادهم.
ان يصبر المؤمن يعني ان ينسلخ من امومة الارض الى ابوة الله له. من هنا ثقته ان الظالم اذا جلده فانما يجلد ما جاء من تراب الارض وهو يعرف ان ما كان من التراب لا يرث ملكوت الله. لذلك كانت عيناه مسمرتين على الحياة الابدية اي المسكوبة من عند العلي لانها حياته هو.
في المراس اليومي كثيرا ما ترتطم بجدار وليس عندك حل ان اردت ان تبقى لله مطيعا تصمد امام الجدار حتى ينقله عنك ايمانك، اذ لا ينفع ان تضرب رأسك بالحائط وانت في حاجة الى حكمة تخرج من رأسك.
لماذا قال يسوع: «من يصبر الى المنتهى يخلص؟» لماذا الى المنتهى؟ كان هذا حتى لا يتحير المصابر بين حل يأخذه من الارض وحل يستلمه من السماء.
وسر الانسان الصبور انه يصلي ويتلقى نفسه جديدا بصلاته. فعلى قدر ما ينتظر الله يفرغ نفسه من ادعائه القوة وينفتح في اتجاه السماء حتى تمطر عليه بكل مكرماتها. الزمن فيه شيء واحد ان احتملته ان يجعلك تحس بفقرك وان تحب فقرك.
ان تحصل كل شيء لنفسك، ان تملأها حتى التخمة يجعلك تستغني عن متابعة الله.
ان تتابعه هو اليقظة وهذا اسم آخر للصبر. واليقظة موهبة تنزل عليك. لذلك الصابرون لا يستكينون. هم في حركة داخلية دائمة وان بدا الصابر لاهل الدنيا كأنه بلا حراك. هو طبعا يتحرك بصمت والصمت ضد التأفف والتذمر والتضجر لانه اقامة في الله. واليقظة تعني الهدوء، وان تذكر الموت لتجبه به اللذة العابرة وان تتضع وان تحزن من اجل خطيئتك.
قال احد آبائنا: «طوبى للذي يجعل خطاياه امام عينيه كل حين لان هذا الانسان يقظ دائما»
ان تحزن الهيا اي بسبب اخلاصك لله يديم فيك اليقظة.
هذا التواصل بينك وبين الله بسهر الصلاة يجعلك مراقبا عقلك وقلبك ليكونا دائما في رقابة الكلمة. لتتغذى بالدعاء وتحيا به. فاذا كنت على ذلك امكنك ان تواجه كل تجربة شر تعتريك وتصمد بسبب القوة التي تكون قد اختزنتها.
من هنا قول بطرس: «إن عملتم الخير وصبرتم على الآلام، كان في ذلك حظوة عند الله» (1بطرس 2: 2).
الصبر يأتي من الداخل كما اسلفت وابديت في الاسطر السابقة، هذا البناء الداخلي الذي تكون قد اقمته يجعلك مالكا نفسك في كل شيء وواقفا امام كل شيء وما تطلبه مع جميع القديسين هو «ملكوت يسوع المسيح وصبره» (رؤيا 1: 9) والصبر يعني هنا ثباتك انت في يسوع.
واذا كنت ثابتا على هذه الصورة فأنت ذو حيوية رائعة في هذا العالم، محول للعالم. اكرر هنا ان الصورة المغلوطة هي ان الصابر مستكين. انه حركي بامتياز، يحتمل السجون والتعذيب والتنكيل كما يطلب الجبه والنضال لان نفسه لا تعرف اليأس اذ رجاؤه ينسكب دوما عليه.
في احزان لبنان الصبر الى جانب الجهاد سلاحنا للصمود. لا نبقى مسمرين على الخطأ والخطيئات. كلنا في الخطيئات والمهم الا نقطع الرجاء ففي البلد طاهرون لا يقبلون الزغل ولا هذه الشطارة اللعينة التي يتغنى بها الكثيرون وجعلتنا نضل كثيرا منذ اقدم العصور.
غير ان الامل في نهوضنا قائم على ان نكون يقظين، حارين في الروح، مؤمنين بالله لان صبرنا لا يأتي من غيره. عيب علينا ان يصيبنا الهوان اكثر مما اصابنا حتى الآن. لا يجوز ان نكذب كما فعلنا كثيرا. الطهارة ليست مستحيلة على من طلبها. منها ينطلق العمل المشترك لتهذيب المجتمع والدولة وجعل اللحمة بينهما بحيث يعتمد الحكم على الطاقات الخيرة في شعبنا ويفيد شعبنا من عمل دولة صالحة.
نحن لا نطلب من الحكم ان يكون فردوسيا ولكن ان يكون جادا لنصبر على نقائصه وندعمه في الخير الذي يقوم به حتى لا يجوع الفقراء ولا يموت كل المرضى ولا يبقى الولد بلا مدرسة. كيف نبرهن للعالم ان لبنان بلد ممكن وقادر الا بتنقية كل منا نفسه في العمل العام كما ينقيها في العمل الفردي؟ كيف نثبت للشعوب انها في حاجة الينا إلمّ نكن على مستوى المسؤولية في كل ما نقوم به؟
هذا يعني تاريخا جديدا واخلاقا جديدة هي وحدها ضمان استمرارنا. ونستمر في الخدمة والتضحيات في اخلاص كبير بحيث نؤمن ان لهذا الوطن حقا على كل واحد من ابنائه وان عليه واجبات لكل من ابنائه فيحيا بهم ويحيون به ويحبونه لا لطبيعته الجميلة فقط ولكن لفضائل شعب يطلب الكرامة.
هذا هو صبر يجعلنا قديسين غير غارقين في اهمال بعضنا البعض، محبين للخير، مبغضين للشر ننتظر من اجل لبنان انبلاج نور عظيم.


المطران جورج خضر 
النهار (15/10/2005)
georgeskhodr.org