الكنيسة والدولة


راى المطران جورج خضر فى علاقة الكنيسة والدولة 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هل الكنيسة بنيةً يمكن أن تكون بإزاء الدولة بنية حتى نجمعها بواو العطف للتمييز او للتفريق او المواجهة؟  
في العهد الجديد السفر الوحيد الذي يتضمّن حكمًا إلهيًّا في الدولة الرومانية هو سفر الرؤيا. نيرون في هذا الكتاب هو الوحش. في الانجيل هيرودس هو ثعلب. كان هذا رأيا إلهيًا في حاكمين، ولكن في انتشار الإنجيل وفي مواجهة روما الوثنيّة بطرس وبولس يتكلّمان عن الخضوع للسلاطين ولا يتحدثان عن حقوق الكنيسة على الدولة ولا على علاقة عضويّة.
هذه العلاقة لم تظهر الا مع قسطنطين في بدايات القرن الرابع وبخاصة مع سلالته. قسطنطين على تنصّره كان يعرف ان الكنيسة شيء آخر لأنها ترعى الأمور الداخليّة اي الروحيّة والأسرار والعقيدة وان الامبراطور " أسقف الأمور الخارجيّة ".
كان همّ أباطرة الروم تدبير المملكة وهنا تؤخذ السجالات اللاهوتيّة في عين الاعتبار لأنها كانت تقسم البلاد ويحصل تدخّل الامبراطور لصالح ما كان يعتبره الأرثوذكسيّة ضدّ أهل البدع حتى ظهرت فكرة الـ Synergie اي التناغم بين الكنيسة والدولة مع مراعاة استقلال كل منهما.
الامبراطورية الرومانية الشرقية استمرار روما القديمة. لذلك ترى نفسها شيئا قائما بذاته ولو كان الناس أنفسهم رومانا شرقيين من جهة ومسيحيين ارثوذكسيين من جهة.
اتبعت روسيا هذا المنهاج حتى جاء بطرس الأكبر وأخضع الكنيسة للدولة.
والآن بعد سقوط الحكم الشيوعي جاء البطريرك كيرلّس المنتخب جديدًا يتحدّث عن تناغم بين الدولة والكنيسة المستقلتين الواحدة عن الأخرى.
لن أتكلّم على الغرب الذي اتّبع بعامة العلمانيّة على أطيافها المختلفة التي لا تنظر الى انتماء المواطنين الديني ولكنها قد تسند الكنيسة هنا وثمّة خارج فرنسا.
غير ان فلسفة التعاون في شرقي أوربا ما كان ممكنا الا لكون المواطنين من لون دينيّ واحد حتى تقوم لغة واحدة بين الكنيسة والدولة. اما اذا كان البلد متعدّد الدين فكيف يتمّ الخطاب بين الدولة والجماعات الدينيّة الأقلوية.
اذ ذاك، ليس من خطاب ديني بين الطوائف والحكم، فاذا كان الحكم قائما على دين تبطل بعض مقولات الخطاب الديني بين المجموعات الدينيّة والحكم.
اذ ذاك نعود الى العهد الرسولي حيث لا تُخاطب الكنيسة الدولة بل يخضع كل المؤمنين لها ولو كانت وثنيّة مضطهدة.
هذا في التاريخ. ولكن في المنظار العقدي ليس من مواجهة نظريا بين الكنيسة القائمة في قلب الله والمتّجهة الى الحياة الأبدية والدولة التي تحكم أزمنة الناس او تحكمها أزمنة الناس. كيانان لا رباط بينهما بواو العطف.
اما المؤمن الفرد فينبث منه روح الرب الى الناس المجتمعين في دولة. 
هذه نفحات نبويّة. 
اذًا الكنيسة المهيكلة والدولة المهيكلة لا تلتقيان. الأنبياء اي الملهمون بالروح يغيّرون البشر وهؤلاء تنشأ منهم القوانين وينشأ منهم العمل السياسي. واذا كان البلد متعدد الدين تبدو نفحات مختلفة من اهل الأديان متقاربة حينا ومتباعدة أحيانا ويأتي النسيج الوطنيّ متعدّد اللون.
اذًا يستحيل المواجهة بين الحكم وكنيسة المسيح وصلا او انفصالا اذ لا مواجهة في المبدأ وان رأت بعض البلدان ان تتعامل والطوائف مما يجعل العلمانيّة فيها مبتورة او نسبية.
مع ذلك يبدو ان فرنسا تظهر فيها ميول للتعامل مع الأديان اذ تحملها إثنيات غريبة الأصل لم يكتمل انصهارها بالمجتمع الفرنسي.
الجواب المسؤول عن العلاقة عند المسيحيين لن يرد الا اذا اعتبرت الكنيسة سائرة الى الحياة الأبديّة فقط فيما أبناؤها يستعملون هذا العالم ويشهدون فيه. 
والشهادة متروكة لكلّ واحد منهم في تحليله الخاص للوضع السياسيّ في بلده. لغيره من المؤمنين ان يقوم بتحليل آخر فيتّخذ موقفًا عمليًا آخر. 
التشرذم السياسي عند أبناء الكنيسة ليس فقط واردا ولكنّه سليم روحيا اذ يدلّ على النضج والنضج ثمرته الاختلاف.
ولكن ان تسعى القيادة الكنسيّة لجمع أبنائها على غير الإنجيل والعقيدة والتطهّر الداخلي يعني انها نسيت طبيعة المسيحيّة الفريدة التي تحلّق فوق الزائل. الكنيسة قائمة في الزمن وفي هذا هي امتداد لحضور المسيح فيه ولكنها ليست من هذا العالم كما يقول انجيل يوحنا.
ما من شكّ ان الكنيسة تُراقب ما يجري في العالم ولكن بلا اختصاص فإن أعضاءها العاملين في المجتمع ذوو اختصاص. أصحاب الحكم وأصحاب التشريع درسوا السياسة وفروعها علما او يمارسونها كالذين درسوها. اما القيمون على خلاص النفوس فقد درسوا فن خلاص النفوس اذا جاز التعبير وما خلا العلم يأتي كلامهم تجريبيا او تقريبيا اي انهم في هذا لا يواجهون اهل الفن.
في هذا اذًا المرجعيّات الإكليروسيّة لا تعني لي شيئا. عملها قداسة نفسها وتقديس المؤمنين. واذا توغّلت في الخطاب السياسي تكون قد قالت او كأنها قالت انها لا تؤمن بفاعليّة الروح القدس التي هي مؤتمنة لإيصالها لأبنائها. لا تؤمن بفاعليّة الروح وتضيف عليها فاعليّة الخطاب السياسي.
كذلك لا يستطيع من يُسمَون علمانيين (اي غير كهنة) ان يفوّضوا رئيسهم الروحي بعمليّة ليست من الدعوة التي دعاه الله اليها. هذا لا يمنع ان يكون الأسقف او الكاهن ممّن يحملون الروح القدس.
هذا ليس من الكهنوت الأسراري. هذا من النبوءة بالمعنى القائم في العهد الجديد اي انه قادر بالنعمة ان يخاطب الملوك والولاة والرؤساء باسم الرب لا باسم طائفته ولا باسم البلد وان يناصر المظلومين والضعفاء من كل دين ومذهب وان يدافع عن استمرار البلد ووحدته لأن هذا من باب المحبّة لكلّ أبناء البلد.
انت تعمل وتعلّم باسم المسيح اي بقوّة الإنجيل لا بقوّة عدد، ولا بالميثولوجيا التاريخيّة.
ليس للمسيحيين امتياز في اي بلد ولا ينبغي ان يكون لأنهم بذا يكونون مستعلين وهم غسلة أرجل الفقراء والمستضعفين من كل دين ومذهب.
المسيحيون ليسوا طائفة او مجموعة طوائف. هذا من سوسيولوجية لبنان. المسيحيون جسد المسيح فقط وليسوا ركامات التاريخ.
ولهذا ليسوا إزاء أحد لأن المسيح ليس إزاء أحد. فاذا لم يكن فيهم قوّة من فوق يهدرون وقتهم وأوقات الآخرين اذا هم فتّشوا عن قوّة تؤتاهم من نسيج هذا العالم. عليهم ان يقرّروا اذا كانوا هم من الإنجيل ام لا.
اما بقاؤهم على هذه الأرض فيتدبّرونه بحكمة قد تكون حكمة هذا العالم لأنّ البقاء شرط الشهادة ولكنّ الموت ايضا من الشهادة.
المصلوب كان ملكًا وهو مرفوع على الخشبة نازفًا حتى النهاية. انا لا أدعو احدًا الى المصلوبيّة، ولكن القادرين عليها هم شركاء السيّد في خلق عالم جديد.


المطران جورج خضر 
النهار (28/03/2009)
georgeskhodr.org